في قلب الظهيرة الملتهب ، بينما كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل بحماس عبر نافذة مكتب خالد، كانت الأجواء تنبض ببطء وكسل. خالد، الذي قضى سنوات طويلة مثبتًا على مقعده الروتيني، ترك قلمه يستريح على دفتر ملاحظاته المثقل بالأرقام والكلمات الباهتة. تنهد بعمق، وأسند رأسه المثقل بالنعاس إلى مسند الكرسي الجلدي المريح. همس لنفسه، بصوت خفيض بالكاد يسمعه:
_ خمس دقائق فقط... مجرد غفوة عابرة.
أطبق جفنيه ببطء، تاركًا روحه تنزلق في هاوية من السكون الغريب، لا تشبه النوم المعتاد الذي يعرفه. في البداية، غمره صمت مطبق، صمت كثيف وثقيل، ثم بدأ يتسلل إلى وعيه صوت خافت، صوت قطرات ماء تتساقط بإيقاع منتظم من مكان مجهول. فتح عينيه ببطء، ليجد نفسه واقفًا في شارع مهجور، شارع موحش تحيطه بنايات شاهقة سوداء، أبوابها موصدة بإحكام ونوافذها تحدق به كعيون باهتة منسية. لم يكن المكان مألوفًا، لم يسبق له أن رأى مثل هذا الشارع الكئيب من قبل، لكن قلبه لم يخفق فزعًا، بل استقبله شعور غريب بالألفة، كأن جزءًا دفينًا منه يعرف الطريق، أو مرّ به في زمن ضائع، في حلم بعيد لم يعد يذكره.
سار خالد بلا وعي، تجره قوة خفية، وكل خطوة كانت تحدث صدى أجوف في الصمت المطبق.
تمتم بصوت مرتعش:
_أين أنا ؟
لكن لم يجبه أحد، لم يكن هناك سوى صدى كلماته الضائعة يرتد عن الجدران الصماء.
فجأة، ظهرت امرأة عجوز من بين الظلال الداكنة التي كانت تتجمع في زوايا الشارع. كانت ترتدي ثوبًا طويلاً رماديًا باهتًا، يلتف حول جسدها النحيل ككفن قديم، وعيناها كانتا زجاجيتين، خاليتين من أي بريق للحياة .
اقتربت منه ببطء، بخطوات متثاقلة وهمست بصوت أجوف، كأنه قادم من أعماق بئر مهجور: _أنت متأخر يا بني... لقد بدأ الحلم منذ زمن.
_أي حلم تتحدثين عنه؟ سألها فى حيرة محاولًا فهم كلماتها الغامضة التي زرعت في قلبه بذرة من القلق مغلفة بالخوف. لكنها اختفت فجأة، كما لو أنها لم تكن موجودة قط، ولم يبقَ سوى صدى ضحكتها الباردة يعبث بحواسه المضطربة، ضحكة قصيرة مكتومة تحمل نبرة سخرية مبهمة.
التفت خالد حوله ببطء، فبدأ المكان يتغير، يتلوى ويتحول أمام عينيه المذهولتين، كأن الأرض الصلبة تحت قدميه تنبض بحياة غريبة، والبنايات الشاهقة تنهار ثم تعود لتتشكل من جديد على هيئة ممرات ضيقة متعرجة وجدران مصنوعة من مرايا مشروخة ومتصدعة. رأى وجهه منعكسًا في كل مرآة، لكنه لم يكن هو نفسه تمامًا ، في إحدى المرايا رأى وجه طفل صغير يبتسم ببراءة لم يعد يتذكرها، وفي أخرى رأى وجه شيخ مسن تجاعيده تحكي قصصًا لم يعشها، وفي مرآة ثالثة رأى شبحًا باهتًا بلا ملامح واضحة يحدق به بعينين فارغتين. صرخ خالد، صرخة مكتومة ملأت الممرات الضيقة، فردت المرايا صرخته بصدى متكسر مشوه يشبه البكاء الحزين.
أخذ يركض بجنون في الممرات المتعرجة، محاولًا الهروب من هذا الكابوس الغريب الذي يلتف حوله كأفعى لزجة، حتى تعثرت قدماه وسقط أرضًا، وشعر بصلابة الرصيف البارد تحت جسده. وفجأة، استيقظ.
كانت الغرفة حرارتها مرتفعة، ومازالت أشعة الشمس الحارة تتسلل من بين الستائر السميكة. بدأ صوت حركة المرور في الخارج يعود تدريجيًا إلى سمعه، ليحل محل الصمت المخيف الذي غمره في الشارع المهجور. اعتدل على مقعده يلتقط أنفاسه المتسارعة، وشعر بقطرات من العرق تتصبب على جبينه. ثم ضحك لنفسه بخفوت، محاولًا التقليل من شأن التجربة المرعبة: "مجرد حلم... غفوة سريعة لا أكثر."
نهض خالد من السرير بخطوات مترددة ليغسل وجهه المتعب. وحين فتح باب الحمام، وجد نفسه يعود إلى ذات الشارع المهجور. نفس البنايات السوداء الشاهقة التي تخنق السماء، نفس الرائحة الغريبة التي لا يستطيع تحديد مصدرها، مزيج من الرطوبة والصدأ والنسيان، نفس السكون المخيف الذي يخيم على المكان كروح شريرة. توقف متجمدًا في مكانه، وعاد الذعر إليه بقوة أكبر هذه المرة، لكنه لم يصرخ، بل ابتلع ريقه بصعوبة وشعر بقلبه يخفق بعنف في صدره كطائر مذبوح.
_أنا... ما زلت نائمًا؟
سأل نفسه بصوت خافت مرتعش، وكأنه يخشى أن يكسر صوته هذا السكون المطبق.
صوت من خلفه أجاب بهدوء، صوت العجوز الذي يحمل في طياته نبرة الحكماء:
_أنت لست نائمًا يا بني... لقد عَبَرت الحجاب.
استدار خالد بسرعة، فوجد العجوز نفسها واقفة خلفه بلا ظل، كما لو أنها كيان غير مادي، محض وهم تجسد في هذا المكان الكئيب. _عبرت؟ إلى أين؟
سأل خالد بذهول، وعلامات الخوف والارتباك بادية على وجهه الشاحب.
العجوز : _إلى الداخل... حيث الحلم يحلمك أنت، لا العكس. قالتها ببطء، وكل كلمة تسقط في هذا الصمت كثقل الحجر.
بدت كلماتها كأنها خرجت من فم الزمن نفسه، مشوشة، بعيدة، لكنها تحمل معنى مؤلمًا وغامضًا يثير في روحه قلقًا دفينًا. حاول خالد تجاهلها وركض بعيدًا، لكن المدينة كانت متاهة لا مخرج لها. كل طريق يسلكه يؤدي به إلى نفس المكان، وكل باب يفتحه يعيده إلى نفس البداية، إلى الشارع المهجور والعجوز الغامضة والمرايا المتصدعة التي تعكس له وجوهًا ليست له. لم يكن وحده في هذه المدينة الغريبة، فقد بدأ يصادف نسخًا من نفسه في كل زاوية مظلمة؛ خالد الطفل الذي يلعب بدمية مكسورة في حديقة مهجورة، خالد الشاب الذي يقف أمام قبر والده في جنازة صامتة تخلو من المعزين، خالد العريس الذي ينتظر عروسًا لم تأتِ أبدًا .
صرخ فى غضب:
_لماذا أرى هذا العبث؟ لماذا هذه الصور المؤلمة؟
فردت المرايا بصوت واحد، صوت أجوف كأنه همسات أجيال ضائعة: _لأنك لا تتذكر من كنت قبل أن تنام... لقد تركت خلفك قطعًا من روحك عالقة في ثنايا الزمن."
مرت عليه أيام، أو ما ظنه أيامًا في هذا العالم الغريب حيث لا يعرف الليل من النهار. لم تكن هناك شمس ولا قمر، فقط شفق رمادي دائم يخيم على المدينة كغطاء من اليأس، كأن الزمن نفسه عالق مثله في هذه الحلقة المفرغة. جرب خالد كل شيء للهروب: القفز من أعالي البنايات الشاهقة التي تمتد نحو السماء كأصابع نحيلة تتوسل الرحمة، الغوص في بحر أسود لا نهاية له يبتلعه في ظلامه الدامس ثم يقذفه من جديد إلى الشاطئ الكئيب، الصراخ في الفراغ المطبق الذي يبتلع صوته دون أن يرتد له صدى، لكم بقبضته الجدران الوهمية التي كانت تتلوى تحت دون أن تنكسر، لكن في كل مرة كان يعود إلى نقطة البداية، الشارع المهجور، العجوز الغامضة التي تراقب تحركاته بعينيها الزجاجيتين، والمرايا المتصدعة التي تسخر من محاولاته اليائسة.
جلس على درج بيت متصدع تتساقط منه الحجارة المتآكلة، وأخذ يحفر بأصابعه المرتعشة في الجدار المتداعي المغطى بالطحالب الخضراء، كأن ذلك سيمزق غطاء هذا الحلم الكابوسي ويكشف له الحقيقة المرة. لكنه ما إن خربش الحائط حتى سال منه دم أسود لزج، ورائحة كريهة نفاذة انتشرت في المكان، وخرجت منه يد تشبه يده تمامًا، لكنها كانت باردة وشاحبة كيد ميت، سحبته بعنف إلى الداخل، إلى عالم آخر أكثر غرابة ورعبًا، عالم ينبض بفوضى عارمة.
داخل الجدار، وجد خالد عالمًا مختلفًا تمامًا: غابة كثيفة من الساعات المكسورة والمتوقفة، وكل ساعة تشير إلى وقت مختلف من حياته، وكل واحدة تهمس بقصة مختلفة من ذكرياته المنسية، أفراح باهتة وأحزان عميقة وندم لا يزول. جلس خالد بين هذه الساعات الصامتة، واستسلم للصمت الثقيل الذي يحيط به كقبر واسع. "إنها ليست أحلامًا... إنها شظايا مني... نسخٌ مني تتقاتل في هذا الفراغ اللامتناهي."
ظهرت العجوز مجددًا، هذه المرة تحمل مرآة صغيرة ذات إطار فضي باهت في يدها العجوزة التي ترتجف. ناولته المرآة وقالت بصوتها الأجوف الذي يحمل عبء السنين:
_إن نظرت بصدق إلى العمق يا بني، قد ترى الباب الذي طال بحثك عنه.
حدّق خالد في المرآة الصغيرة، فرأى نفسه نائمًا على مكتبه في العمل، رأسه مائل على يده، وزملاؤه يتحركون من حوله منهمكين في عملهم دون أن يلاحظوه أحدًا، غارقين في روتينهم اليومي. أراد أن يصرخ، أن يدق على الزجاج الرقيق الذي يفصله عن عالمه الحقيقي، أن يعود إلى حياته التي بدت الآن كجنة مفقودة، لكن المرآة تشققت فجأة، ثم اختفت من بين يديه كالدخان المتلاشي في مهب الريح.
قالت العجوز بصوتها الأجوف الحزين الذي يحمل نبرة أسى عميقة:
_لن تعود يا بني حتى تنسى أنك غفوت... وحتى تتصالح مع الأجزاء التي هربت منها.
كان أشد ما يؤلم خالد في هذا العالم الغريب أنه بدأ يفقد ذاكرته تدريجيًا، كأن رمال الزمن تتسرب من بين أصابعه. ذات صباح مشؤوم حاول تذكر وجه أمه الحنون، لكنه لم يفلح، تلاشى الوجه من ذاكرته كحلم باهت. ثم نسي اسم أخيه، ثم نسي اسم صديقه المقرب، ثم نسي اسم الشارع الذي كان يسكن فيه. وعندما نظر إلى صورته المنعكسة في بركة ماء آسنة تعكس سماء رمادية قاتمة، لم يتعرف على ملامحه الشاحبة الغريبة، العينين الذابلتين، والشفتين المرتعشتين. سأل نفسه بيأس:
_من أنا حقًا؟"
ولم يجبه أحد، لم يكن هناك سوى صدى صوته الضائع يرتد عن الجدران الصماء للمدينة المهجورة.
ولما بلغ خالد قاع اليأس، توقف عن الهرب، توقف عن المقاومة. جلس في مركز المدينة المهجورة، على رصيف بارد تتخلله شقوق عميقة، وجعل يكتب بأصبعه المرتعشة على جدرانها المتداعية ما تبقى من ذاكرته المتلاشية، محاولًا الاحتفاظ بالخيوط الرفيعة التي تربطه بماضيه. كتب عن صوت المطر الخفيف الذي كان يتساقط على نافذته في أول ليلة حب عاشها، عن لون معطف أبيه القديم الذي كان يرتديه في أيام الشتاء الباردة، عن اسم الأغنية التي سمعها وهو يركض وراء الحافلة في يوم مشمس، عن رائحة خبز أمه الطازج الذي كان يملأ أرجاء البيت دفئًا وحنانًا.
حنين جارف تملكه وهو يتذكر تلك المشاهد، شعور رهيب بالأنانية اجتاحه وهو يعلم كيف أهمل كل هؤلاء من أجل حياته وطموحه.
دموع الندم انسابت من عينيه، وارتطمت بالأرض السوداء.
كلما كتب خالد كلمة، أو سالت دمعة منه، ارتجف المكان من حوله، كأن جدران هذا العالم الغريب تتألم لذكره. وكلما تذكر شيئًا من ماضيه، اهتز الحلم الغريب بعنف، وبدأت التشققات تظهر في بنيانه الهش. فجأة انشق في السماء الرمادية شق ضيق، ومنه تسلل نور حاد، نور أبيض مبهر لم يره منذ زمن طويل، نور يبعث الدفء والأمل. اقتربت العجوز منه ببطء، وكانت تبكي بصمت، دموعها الشفافة تنزلق على وجنتيها المجعدتين كقطرات الندى على ورقة ذابلة.
سألها خالد فى دهشة:
- لماذا تبكين يا سيدتي؟
أجابت :
_لأنك تذكرت يا بني... ومن يتذكر، يجد طريقه للخارج.
سألها فى فضول:
_هل كنتِ تنتظرينني لأفعل هذا؟ لأتذكر؟
ردت عليه فى حزن:
_كنت يومًا مثلك... ضائعًا في الداخل. لكنني نسيت... ولهذا بقيت هنا.
ومع آخر كلمة قالتها العجوز، بدأت الأرض تهتز بعنف تحت قدمي خالد، وانشقت تحت قدميه فجوة عميقة، فسقط فيها إلى الأسفل، إلى ظلام دامس ابتلعه بالكامل.
هذه المرة، لم يكن السقوط حلمًا.
فتح خالد عينيه ببطء، فوجد نفسه مستلقيًا على مكتبه في العمل، نفس الإضاءة الخافتة التي اعتاد عليها، نفس الأوراق المبعثرة التي تشهد على روتين ممل، نفس الهدوء الرتيب الذي يسبق العودة إلى صخب الحياة. نهض ببطء، وشعر بقلبه خفيفًا، كأن روحه قد نُفضت من غبار ثقيل كان يثقل كاهلها. نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط، فوجد أن خمس دقائق فقط قد مضت منذ أن أغلق عينيه تلك الغفوة المشؤومة. حمل حقيبته المثقلة بالملفات ومشى في الممر الطويل نحو باب الخروج، يشعر بشيء مختلف، بشيء قد تغير داخله.
لكنه حين مر أمام مرآة المصعد، توقف فجأة، وشعر بقشعريرة تسري في جسده.
رأى انعكاسه يحدق فيه ببرود، ثم ابتسم الانعكاس ببطء... دون أن تبتسم شفتاه هو. كانت ابتسامة باردة، غريبة، لا تحمل أي دفء أو ود.
شعر قلبه بخوف غامض، شعور بعدم ارتياح تملك عليه. فُتح باب المصعد ببطء، وكان مظلمًا من الداخل، كبئر عميقة لا نهاية لها تبتلع النور.
نظر إليه خالد، وشعر بتردد غريب يسيطر على أطرافه.
لم يكن هناك سوى صمت المصعد المطبق، وصورة انعكاسه الباردة المبتسمة التي تلاحقه بنظراتها الفارغة.
همس في خفوت وهو يحادث نفسه :
_ هل خرجت حقًا من الحلم؟
ولم يجيبه سوى الصمت..
والظلام..