في قرية بعيدة ، وزمن أكثر بعدا، عاش مواطن بسيط يُدعى مراد. لم يكن يملك سوى يديه المجروحتين من العمل الشاق. تنقل بين وظائف يومية، يزرع الأرض تارة، ويحفر الأساسات تارة أخرى، يكدح ليحيا.
وذات يوم، بينما كان يستريح تحت ظل شجرة جافة، اقترب منه رجل يرتدي بذلة فاخرة، يُدعى داوود، زعيم حزب سياسي بارز في المنطقة. بابتسامة واثقة وصوت دافئ، قال له:"يا مراد، لقد رأيت كفاحك وصبرك. أنت رمز الجد والعمل. لذلك، قررنا كحزب أن نهديك قطعة أرض في مشروعنا التنموي الجديد. هبة منا لك، دون مقابل، لنبني معًا مستقبلًا أفضل!
"ابتهج مراد، وامتلأ قلبه بالأمل. شكر داوود بحرارة، ورأى في كلامه وعودًا بغدٍ مشرق. تصوّر نفسه يمتلك أرضًا، بيتًا، حياة إنسانية .
مرّت الأيام، وقرر مراد أن يبدأ ببناء بيت متواضع على أرضه. ذهب إلى داوود وسأله:"هل يمكن للحزب مساعدتي ببعض مواد البناء؟"
رد داوود بهدوء:"بالطبع، لدينا برنامج دعم للمواد. لكنها تُدار عبر شركاتنا المتعاقدة. يمكنك شراء الطوب والأسمنت بسعر السوق، وسنسهل لك الإجراءات.
استغرب مراد، لكنه اقترض المال واشترى ما يلزم، وبدأ يبني جدران بيته.مع مرور الأسابيع، ضرب الجفاف القرية، ونضب الماء. عاد مراد إلى داوود:"هل يمكنني الحصول على ماء من مشروع الحزب للري؟"
أجاب داوود:"الماء مورد وطني، وتوزيعه يخضع لنظام. يمكنك الاشتراك في خدمة المياه مقابل رسوم شهرية، كما يفعل الجميع."
دفع مراد، ثم احتاج كهرباء. اشترك في الخدمة ودفع. أراد طريقًا يصل إلى أرضه، فدفع.
حتى نفد ماله، وأصبح مثقلًا بالديون.كلما عبّر مراد عن استيائه، كان داوود يرد بنبرة واثقة:"ألم نهدك الأرض؟ لولا هبتنا لما كنت الآن مالكًا! هذه الأرض رمز حريتك وكرامتك. ما تدفعه هو تكاليف التنمية، لكن الأرض... الأرض كانت هدية! لقد أنقذتك!
في ليلة باردة، جلس مراد في بيته الناقص، ينظر إلى يديه المتصلبة، ثم إلى الأرض التي أُوهم أنها ملكه. فكر في نفسه:"أعطاني داوود وعدًا بالأرض، لكنه باعني كل ما يجعلها صالحة للحياة. كل حجر، كل قطرة ماء، كل ومضة كهرباء، دفعت ثمنها بعرقي وديني. هل كانت هذه هبة، أم مجرد شعار براق يخفي وراءه نظامًا يستنزفني؟"
وذات صباح، بينما كان يحمل دلو ماء من مشروع الحزب، الذي يدفع رسومه شهريًا، رأى داوود واقفًا عند مدخل القرية. كان يبتسم ابتسامته البلاستيكية، ويتحدث إلى رجل آخر يبدو عليه الإرهاق والحاجة. مدّ يده وقال بنفس النبرة:"لقد رأينا جهودك، ونريد دعمك. هذه أرض لك، هبة من الحزب، لبناء مستقبلك.
تجمّد مراد في مكانه، شعر وكأنه يرى نفسه من بعيد، يعود إلى ذات النقطة..
وذات البداية..