كم مرت الأيام بسرعة!
لدرجة لم نشعر معها بمذاقها وما تحويها.. ولا نتذكر كيف مرت..
صغارًا كنا.. نتمنى أن نكبر..
حتى إذا ما صرنا كبارًا.. وأخذتنا دوامة الحياة وأعباؤها.. غلبنا الحنين لأيامٍ لم نحمل فيها همًا..
ولكن تبقى الحقيقة الثابتة..
"لن يعود ماضٍ.. ولن يتغير قدر"
فقط جلّ ما يمكننا فعله هو صقل الحاضر ودفعه نحو أفضل ما يرضينا..
نقابل غرباء..
منهم من يمرون كرامًا..
ومنهم من يأخذون من الروح حبًا أو يتركون فيها ندوبًا..
ومنهم من يستقرون بخير مقام..
ويصبحون أقرب من حبل الوريد..
فنرسم معهم خرائط الأحلام.. ونخطو معهم في طرائق الأيام.. حتى نظن بأنهم سيبقون خالدين بخلود تلك المشاعر..
ونسينا أنهم ونحن.. كلنا عابرون..
وعني..
أعرفكم بنفسي..
أنا أكثر من تحب.. وأعمقهم.. وأندرهم..
أندفع دومًا في مشاعري بلا هوادة ولا رحمة..
أتورط في العلاقات غير مبصرة لحيثيات الواقع..
أرهن قلبي فداءً لكل من يربت على جدرانه..
أكون أرضًا تحوي.. وسماءً تعانق.. وغيمة تظلل..
ورغم كل ذلك..
ثمة ضلع ناقص.. دائمًا هناك خلل..
نقبت عنه كثيرًا حتى اكتشفت مؤخرًا أنه بداخلي..
أجلس بعد ركض طويل ومرهق..
وبعد انتهاكات لمشاعري العذراء.. صريعة بلا قوى.. وقد أريقت كل طاقاتي على مر الأيام هباءً..
أجلس لأندب أحلامي الحمقاء.. وعفويتي الساذجة.. ومشاعري السخيفة.. وضحكاتي اللزجة.. ولمساتي المنفرة..
أجلس وطوفان بداخلي لا يهدأ..
كم هو من المؤلم ذلك الشعور..
أن تتلهف للانفراد والتميز.. عند أحد ما..
شعور لطالما تمنيته.. وطاردت سرابه..
حتى سقط في تلك الهاوية..
هاوية افتقادي للــ "أنا"..
محنة الأنا التي لطالما قسوت عليها.. وهمشتها..
ومعها بخست نفسي حق أن أحب "أنا" أولًا..
أحببت الجميع ونسيت أن من الأولى أن أحبني..
غرقت في محبة هذا وذاك.. وسلمت ذلك المسكين "قلبي" رهينة بينهم ليتفطر لوعة..
حتى صرت اليوم لا أقدر أن أنتشل بقاياه من بين حطام الأيام ورفات المواقف التي تخنقني..
وتسلمني قربانًا لا يملك إرادة الرفض ولا رفاهية النحيب..
بداخلي أصوات لا تصمت.. وعواصف لا تهدأ..
وسؤال لا جواب له..
لمتى تظل روحي عالقة بين السماء والأرض؟
متى سأطال الراحة التي أنشدها؟ وأصل للوجهة التي أبتغيها؟
متى سأرتاح من هذا التعب؟
برودة صارت تسكن أطرافي..
وحنين يغمرني مذاقه..
يتماوج ما بين مرارة العلقم.. وحلاوة العسل.. وانسيابية الماء.. ونقاء اللبن.. ولذوعة الألم..
حتى أن كل أفكاري باتت لا تصب إلا في ذلك الاتجاه...
نحو الاستسلام التام..
كان كل ذنبي أنني ظننت بهم خيرًا..
ونسيت أن بعض الظن إثم..
أَحبَبت أكثر مما ينبغي..
وأُحبِبْتُ أقل مما أستحق..
قدَّرت من حولي من تقديري لذاتي..
وبُخِسَ قدري كأني لم أكن.. وكأنني لم أكن عزيزة يومًا..
وحقًا لا شيء على وجه الأرض أكثر إحباطًا من ذلك الشعور..
لكنها الأيام.. لا تتوقف عند أحد..
ومهما تثاقلت قدماي.. تمشي هي مسرعة ولا تمهلني ولو لحظات لالتقاط بعض الأنفاس..
حتى جاوزني الشباب.. واغتالتني مقصلة المشيب..
واعتلى العجز عرش ممالكي.. فصارت واهنة.. باهتة..
لا شيء يغريها لتعود للمكافحة ضد عوامل السنين..
ولا تقدر على رفع سيوفها في وجه بطش الأقدار..
حتى صار مجرد الإيماء بالرأس مهمة شاقة على نفسي ولو للرد على من حولي..
لم أعد أملك سوى بضع حروف..
ألملم خرزاتها وألحمها معًا لأرسم بعض الكلمات..
لأصنع نسيجًا مزيجًا من الألم وبعض الأمل..
وأنتشل بها بعض مشاعري الغرقى لكي تتنفس من جديد..
لذا أترك لأناملي العنان.. لتكتب..
بذاكرة لم تعد تملك سوى بعض التأتأة..
لعل بها بعض المواساة لنفسي.. وبعض العزاء..
حتى أعيش..
وأكمل ما تبقى من أيامي في هدوء..
وصمت..