اليوم أودع عامي الثامن والثلاثين وأحتفل ــ وفقا لعداد موسوعة ويكيبيديا التي وضعت بعض الكلمات عني على صفحاتها ــ بقدوم عامي التاسع والثلاثين، ذلك الذي أخطو إلى أولى عتباته مُحَمَّلا بكثير من فضل الله وستره وعطاياه.
***
(1)
لقد خرجت من هذا العام مثخنا بمحن كثيرة اقترنت بهذا الفضل وكادت تقصم ظهري لولا لطف الله وتثبيته ورعايته؛ ثم خرجت برؤية العالم من سَمِ خِياطٍ مغاير لرؤيتي له في السنوات الثمان والثلاثين الماضيات.
ثم إنني اعتدت كل عام في مثل هذا اليوم أن أطرح منظوري نحو هذا العالم المحير والمجنون والمفعم بالغرابة والدهشة على حدٍ سواء.
لقد كان عامي الفائت عسيرًا وعصيبًا، كانت الليالي فيه ثقيلة وطويلة تمر ببطء شديد، مقترنة بالحزن والخوف والجوع، ولم أفهم السبب في ذلك؛ حتى وجدت ضالتي في آية من سورة محمد: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
ووجدت ضالتي كذلك في آية من سورة البقرة: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
وفهمت أن كل المحن التي يبتلى بها الإنسان هي اختبار له من السماء، التي تريد معرفة ردة فعله مع الابتلاء، هل سيصبر أم سيكفر؟
عليه، فالمؤمن لا تزيده المحن إلا ولاءً لربه، وتعلقا به، والكافر لا تزيده المحن إلا جحودا وإيغالا في عدم فهم المعنى من هذه المنغصات.
***
(2)
وفي هذا العام أطلت التفكر في سبب هذه المحن التي تعتري الواحد منا، ولا يعلم عنها أحد من المحيطين به شيئا.
وفطنت إلى أن هذه هي حكمة الله تعالى في تسيير ملكوته، وفطنت إلى أنها رسالته ــ جل جلاله ــ إلى عباده.
ومفاد تلك الرسالة أن الدنيا دار ابتلاء ونصب وتعب مهما أوتي الإنسان فيها من وسائل الراحة والرفاهية.
السبب أن يدرك الإنسان العاقل أن هذه الدار الدنيا ليست داره، وأن مكانه في داره الآخرة بعد أن ينتقل إلى جوار ربه.
وهنا تدبرت قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
والحيوان، مرادفة معناها الحياة الحقيقية الكاملة التي لا موت بعدها، ولذلك قال تعالى في موضع آخر من ذكره الحكيم {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}.
إذن نحن في دار النصب والتعب والحزن والمنغطات.
نحن في الدار الدنيا الفانية الزائلة، التي مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عَظُمَت فهي حقيرة.
وبالتالي قفز إلى ذهني السؤال الأهم:
لما نتصارع على هذه الدنيا طالما أنها ليست ممهدة لنا؟ ولما نتكالب على مصالحها الفانية طالما أن كل مصالحها مقترنة بالمحن؟!
فهمت أن المصالح هي فتن، وأن المحن المقترنة بالمصالح هي اختبار للجدارة أو الاستحقاق.
أو استحقاق النار التي: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.
تماما مثل اختبار نهاية العالم للطلاب.
إنه اختبار لمعرفة من الذي تعب وسهر وذاكر وأصبح جديرا بالنجاح والانتقال إلى الصف الدراسي التالي، ومن تخاذل واستحق الدرك الأسفل من الرسوب.
تغيرت لأني أعدت الزيارة مرات جديدة إلى رسائل السماء.
والفهم هو المصل والترياق.
إذن الإنسان الحي النابض هو الذي يجب أن يتغير ولا يظل ساكنا راكدا كالماء الآسن، وبالتالي فالتغير هو دليل الحياة.
***
(3)
ومن الأمور التي استرعت تفكيري الطويل وتدبري آناء الليل وأطراف النهار، هو ظاهرة موت الشبان في ربيع أعمارهم.
تُرى، لما يُغَيِّبُ الموتُ شابا في عمر العشرين من دون سبب طبي ومن دون مقدمات؟!
ولما يتصارع الناس على فضلات هذه الدنيا طالما أنها زائلة؟!
ولما يتورط الإنسان في هذا الصراع إلى الحد الذي يهلكه في دنياه وأخراه؟!
الإجابة التي خرجت بها أن الإنسان المعاصر بعيد عن تعاليم ربه وبعيد عن الحكمة العليا التي منحها الله لرسوله، وهذه الحكمة هي السنة النبوية الصحيحة التي وصلت إلينا في كتب الصحاح.
وفيها ورد أن الرسول قال إن "موت الفجأة من علامات اقتراب الساعة".
الساعة هي أحد مرادفات يوم القيامة الذي أخبر به الرسول بالتفصيل الدقيق، وتحدث عن كل شيء قبله وخلاله، وتحدث عن ظهور المسيح الدجال الذي سيناصره جماعة من يهود إيران المقيمين في محافظة أصفهان، والمعروفين بـ"الطيالسة".
وإخباره عن نزول المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، من السماء الرابعة وتخليص العالم من فتنة هذا المسيح الدجال الذي تعد فتنته هي أخطر فتنة في تاريخ الحضارة البشرية.
وإخباره عن المؤمنين الذين سيناصرون عيسى، وعن الكافرين الذين سيفتنون بالمسيح الدجال، الأعور الكذاب المكتوب على جبينه "كافر" أو "كفر".
***
(4)
هنا فالعودة إلى القرآن وإلى الحكمة المرادفة له هي سبيل الفهم، خاصة أن الله ــ جل جلاله ــ وصف حديث الأنبياء عموما، وحديث النبي على وجه الخصوص بـ"الحكمة" في غير موضع من كتابه الكريم.
وفي تلك الأسابيع التي تفكرت فيها طويلا في شؤون هذا العالم كان أن توصل فريق عالم الفلك الأمريكي، جيمس ويب، ومجموعة الباحثين الأفذاذ الذين معه إلى صورة مقربة من ملكوت الله، وسموها "أعمدة الخلق".
وقد قالوا إن كوكب الأرض في الفضاء الشاسع هو مثل حبة رمل في فلاة مترامية الأطراف.
بصراحة لا أعرف ما إذا كان قد وصل إليهم حديث النبي محمد ﷺ حول أن "الدنيا لا تساوي في ملك الله جناح بعوضة"، أم لا؟ّ
وبغض النظر عن معرفتهم بحقيقة الإسلام أم لا، فقد تيقنت من أن هذا الكون الهائل لا بد له من إله.
ولا بد لهذا الإله أن يكون واحدا متعاليا على كل خلقه.
وأن هذا الإله حري به ألا يظهر إلى عباده، وأن يكتفي بإرسال الرسل إليهم نيابة عنه كي يخبروا الناس والأقوام والحضارات في الكواكب المختلفة وفي المجرات المترامية عن حقيقته.
وظهور الله على عباده يعني الفوضى والعبث.
وهنا كان لزاما عليّ أن أعرف من أعبد؟!
وما هي صفات هذا الله العظيم، جل في علاه؟!
وقد أطلت البحث في هذا الشأن، فلم أعرف صفة لله يمكن للعقل البشري أن يستوعبها سوى أنه "نورٌ على نورٍ".
ثم اهتديت إلى حديث جامع مانع أخرجه مسلم وابن ماجة وغيرهما بسند صحيح، وفيه يقول الرسول محمد ﷺ: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لا يَنامُ، ولا يَنْبَغِي له أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجابُهُ النُّورُ، وفي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: النَّارُ، لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ".
يعني لو كشف الله وجهه لعباده لأحرقهم نور وجهه.
وعرفت أن الأرض سبع دركات، وأن السماء سبع درجات أو طبقات، وأن هناك بحرا فوق هذه السماوات أعلاه عرش الله، وقد استوى ــ جل جلاله ــ على هذا العرش، وأن ما وصل إلى البشرية من علم أن الاستواء معلوم، وأن الكيف مجهول.
لكنه أخبرنا بصفات حملة عرشه الذين هم إما ثماني ملائكة أو ثمانية صفوف من الملائكة أو ثمانية جيوش منهم، وأن الواحد منهم يطير الطير من أذنه إلى كتفه مسافة 700 عام.
وأن الواحد من هؤلاء الملائكة يضرب رجله في سابع أرض ويحمل عرش ربه على كتفه فوق البحر الذي فوق السماء السابعة.
إذا كانت هذه صفات الواحد من حملة العرش، فكيف يتخيل العقل البشري صفات الله نفسه.
***
(5)
في هذا العام أكرمني الله بأن قربني منه وزادت معرفتي به، ومع ذلك لم أعبده حق عبادته، ولم أؤدِ ربوبيته تمامها، وهو يراني ومطلع علي، وواصل رزقي وستري والتفضل علي من خزائنه التي لا تنفد.
أتمنى في عامي الجديد أن يجنب الله بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرفع عنا البلاء والغلاء والوباء.
وأن يرزقني الله طاعته وأن يمنحني البر بوالدتي وبأساتذتي ورعاية أسرتي، ومواصلة تبليغ العلم إلى طلابي، وأن يرزقني محبة الناس والستر والصحة وراحة البال، والصبر على مشاق الدنيا الفانية.
كما أتمنى أن تكون سطوري تعبيرا عن وحي كل أولئك الذين هم في مثل عمري ينظرون إلى خواتيم أعوامهم وينفعهم ما تعلموا منها في المقبل من السنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ