فوق الرفُّ الخشبي الضيق وضعتْ آلة التسجيل الخاص بها،
الشيفونيه الخشبي المُعتَّق بالذهب الخالص، ما زال يعيدها نحو أيام الطفولة، حكاية الجدات وأشجار السنديان التي صُنِعَ منها.
ترفعُ رأسها عالياً بذقنها الرفيعة ووجه يحمل ملامح الطفولة وغمازات مغروسة في منتصفِ وجنتيها، تنظرُ نحو الصورة المائلة على ذاك الجدار، كانت مائلة بمقدار ستين درجة هكذا قدَّرت داخل رأسها حينما خمَّنت بشكل سريع مساحة الجدار و حجم الصورة، همهمت وهي تضع يدها فوق ذقنها و تضيق عينيها كثعلب ماكر، لم ترَ العائلة الصغيرة التي كانت داخل الصورة، أو الفتاة التي كانت تتوسط تلك المساحة وهي تقفز بمرحٍ وعينين لامعتين وابتسامة عريضة، لم تنتبه للأخرى المُتجهِمَّة بحقد و هي تنظر بطرف عينيها إلى مكان ما، كان جلُّ تركيزها ينحصر ببقعة الغبار فوق ذاك الزجاج.
أمسكت بقطعة قماش وبدأت بمسح الزجاج بشيء من الإتقان والرِّقة، وما إن انتهت حتى فزعت وهي ترجع خطوتين إلى الوراء، لقد اختفت تلك العائلة وكأنها خرجت من داخل الإطار!
صاحت بصوت عالي لمساعدتها كي تشاهد اللعنة السحرية التي حصلت معها للتو، بعينين ناعستين أكلتهما الدهشة والحيرة كانت تنظر إلى ذاك الإطار الذهبي برعب وخوف.
رجفت شفتيها وهي تشير لماريلا أن ترى اختفاء الصورة، لكنها لم تُحدث أي ردة فعل أو دهشة بل اقتربت من الصورة ومسحت الزجاج بعشوائية و صلابة، قبل أن تبتعد و تراها مرة أخرى، لكن هذه المرة بدهشة أكبر أقسمت لماريلا عن وجود سحر لا تودُّ الاعتراف به، فلقد عادت الصورة إلى سابق عهدها.
– سيدتي دعي لي مهمة التنظيف، قالتها ماريلا بشيء من الإذعان والضجر قبل أن تغادر الغرفة.
نفَّضت نوال فستانها الوردي وهي تتقدم من النافذة لتنظر نحو الحديقة الخارجية وهي تردد بنفسها
– أعرف هذا المكان أفضل منكِ بكثير يا ماريلا لكنك تجهلين الأمر كما يفعل الآخرون تماماً، أنا لست غريبة الأطوار!
رائحة دخان خفيفة انبعثت من غليونه القديم، صوت الكرسي الهزاز وسعال خفيف نبَّأها عن وجوده خلفها، بعينيه القاسيتين و جسده الضخم كان يجلس خلفها، يراقبها بحركاتها وسكناتها، أسفل ثغره نصف ابتسامة خبيثة لم تكن توحي لأي شيء سوى الذعر، كانت تلك أقبح ابتسامة رأتها في حياتها كُلِّها.
لم تلتفت إليه أو تنظر نحوه، لكنها كانت تشعر به يخترق جسدها ويشعر بنبضات قلبها المرتجف ويديها اللتين أصبحتا أكثر قصراً من ذي قبل!
“هو محضُ خيال! إنه يسكن رأسي فحسب!” رددت مراراً وتكراراً وهي تغمضُ عينيها بقوة ولسان حالها يتمنى أن يختفي.
إزداد صوت حركة الكرسي حتى تحول ذاك الصوت إلى صراخ مُزعج صُمَّت له أذنيها، بدأ جبينها بالتعرُّقِ ويديها ترتجف لم تكن تبكي بل كانت تحاول الصمود والبقاء قوية قدر الإمكان.
بنصف استدارة واجهته لتصرخ بوجهه أن يبتعد عنها، لكنه اختفى وتلاشى كأنه لم يكن!
تنهدَّت بعمق وهي تحاول إعادة إتزانها و تتأمل جدران الغرفة، الباب مُقفل والمقاعد بأماكنهم الصحيحة، الكرسي ساكن مُغطى بمفرش ساتان تذكرت أنها وضعته قبل خمس دقائق فقط.
صادفت عينيها الصورة القديمة مُجدداً، كانت مائلة بمقدار ستين درجة، أووه ماريلا أهذه أنتِ من فعلها مرة أخرى؟!
تساءلت بضيق شديد وهي تقترب منها بخطوات سريعة،
حكَّت فروة رأسها بشيء من الانزعاج، لماذا لم تأتِ هذه الغبية،
أعادت تعديل وضع الشريط الأسود عند زاوية الإطار، عندما اكتشفت وجود ماريلا في أقصى الزاوية داخل الصورة.
– ماريلا!!
في صالة الضيوف الخاصة بالطابق الأرضي، جلست نوال برفقة الأستاذ جورج وهو يحاول الشرح لها عن الأحداث التي حصلت منذ قرابة الأربعة أيام، يتحدث بلغة سلسة وبسيطة وهو يشير بيديه هنا وهناك ليحاول تقريب وجهات النظر بل أن يقنعها بالذي يراه واقعياً بالنسبة إليه خيالياً داخل عقل نوال.
- من العائلة التي داخل الصورة؟!
سألته ببرود وعينيها مثبتتين على الصورة الموضوعة فوق الجدار المقابل لها.
- هذه الصورة موجودة في كل مكان داخل القصر، لكنني لا أرى ملامح أيُّ واحد منهم، هل تقصَّد المصوّرُ حذف ملامح الوجوه!
تركت خلف كلماتها الأخيرة ثلاث إشارات تعجُّبٍ وصدى صوتها يدور داخل رأس جورج الجالس على الكرسي المقابل لها.
يبدو على ملامحه القلق والتوتر، على الرغم من محاولته أن يبقى ثابتاً وواثقاً من نفسه، إيجابياً في ردود أفعاله، لكن عبثاً كانت جميع محاولته السابقة.
- هذه عائلتك يا نوال. أجابها باختصار شديد...
ابتلع ريقه وهو يشبك يديه ببعضهما قبل أن يكمل:
- أنا أرى الوجوه بوضوح شديد، هل تودين استعمال النظارة الطبية، لقد جلبتها لك في الأمس؟!
- أرى كل شيء بوضوح شديد لا داعي لها يا سيدي!!
نهضت باستنكار وهي ترمي بجملتها الأخيرة في وجهه، قبل أن تستدير خارجة من القصر الكبير والتفاصيل الجنونية التي بدأت تعتقد أنها لن تخرج منها إلى الأبد!
فتحت الباب الكبير وبخطوات سريعة دون النظر إلى خلفها خطت نحو الحديقة الخارجية الكبيرة، لتجد نفسها تقف أمام شجرة الصنوبر العملاقة والتي كانت مغروسة في منتصفِ الحديقة تماماً.
جلست مُسنِدة ظهرها نحو ذاك الجذع القديم و الضخم، تحتضن نفسها بكلتا ذراعيها كجنين ضعيف خرج من رحم أُمِّه للتو، لا يفقه شيئاً عن هذه الحياة وأسرارها.
ربَّتَتْ يدٌ على كتفها بشكل لطيف، رفعت رأسها لترى الأستاذ جورج يقف أمامها وهو يبتسم حاملاً بين يديه الكتاب القديم الذي رأته أول مرة داخل الشرفة.
جلس إلى جانبها ووضع الكتاب بين يديها، وهو يسند ظهره إلى الجذع الضخم، تُحلِّقُ عينيه الرماديتين نحو الغيوم البيضاء القطنية، بحَّة صوته سَرَتْ في قلبها وأشعرتها بالدفء.
- أعرفك يا نوال منذ صغرك، أنا المسؤول عن جميع تحركاتك الصغيرة والكبيرة، لذلك لا تعتقدي بعدم معرفتي للأحداث التي تدور داخلك، أو العالم الذي تراه عينيكِ وتحسبينه واقعاً.
كانت ماريلا ابنتي وقلبي لن ينساها ما حييت، بل إنني أشعر بفراغٍ يفوق الذي تشعرين به بأضعاف، لكنها الحياة يانوال!!
روح ماريلا مازالت تعيش معي وبين جدران هذا القصر، لكنه محضُ خيال لا أكثر، لماذا لم تسافري حتى الآن!!
فُتِحَ باب القصر الكبير، وظهرت من خلفه ماريلا ترتدي فستانها الأبيض والمُزركش بورود مُلوَّنة، كانت تخطو نحو الاثنين لكن وحدها نوال من شاهدتها، لذلك لم تستطع البوح بالأمر أمام الأستاذ جورج، بل اكتفت بإدعائها الاستماع إلى حديثه والنظر إليه لتحاشي النظر نحو ملامح وجهها التي كانت ترعبها.
جلست مُسنِدة ركبتيها إلى ركبتيها، ووضعت كفِّها على وجهها،
قبل أن تقترب منها وتهمسُ في أذنها بصوت أشبه بفحيح الأفعى:
- لماذا لا تخبريه الحقيقة يا نوال، هل أنت خائفة من الإعتراف أنَّكِ القاتلة؟!
" عادت بي الذاكرة إلى كانون الأول من عام ٢٠٠٣ ميلادي، كانت السماء حُبلى بالغيوم السوداء تُعلنُ عن بداية تساقط الثلج و الشتاء البارد الذي لطالما كنتُ أمقتهُ من أعماقِ قلبي، على عكس شقيقتي الصغرى التي كانت تعشقهُ في جميع تفاصيله، بل إنَّ والدتي كانت تناديها بأميرة الثلج!
جاء والدي من العملِ باكراً ليخبرنا عن تحضيره رحلة للذهاب نحو الجبل والاستمتاع بمنظر تساقط الثلوج فوق دمشق من الأعلى، كانت شقيقتي علياء تركض بسعادة وهي تحضِّر الأمتعة و الحقائب، الحلويات والأطعمة الدسمة برفقة والدتي و الخالة عايدا المشرفة على المنزل، أما أنا كنت أقف في الزاوية أشاهد الجميع من بعيد وأنا كارهة للذهاب إلى هذه الرحلة، لذلك قمتُ بالإدعاء أنني مريضة للبقاء برفقة العم جورج داخل المنزل.
أُضرِمَت نيران الغيرة داخل أضلعي في اللحظة التي أعلنت لي أمي قرارهم بأخذ ماريلا ابنة مربية المنزل الخالة عايدا والتي كنتُ أمقتها بشدَّة كما هو حال جميع الأشياء التي كانت تفضِّلها علياء و تبعدها عني!
وقفتُ على الشرفة الخارجية للمنزل أراقب السيارة السوداء تخرج من باب القصرِ على مهلٍ تاركة آثار عجلاتها فوق الثلج الأبيض وداخل قلبي، كنتُ أمسك المسمار الحديدي بيدي المُرتجفة وقد سقطت جميع المشاعر من روحي دفعة واحدة فأصبح جسدي فارغ له خوار وصدى صراخ ماريلا وعلياء وهما خائفتان من السرعة التي يقودُ بها والدي السيارة دون أن يستطيع إيقافها أو التحكم بها، برقَ في عقلي صورة للخالة عايدا و والدتي وهما يحاولان تهدئة الطفلتين والابتهال لله.
تحسَّستُ بُقعَ الزيتِ والشحم فوق ثوبي،و شممتُ رائحتها دمٍ وعفن والكثير من الخطايا التي تعلَّقت بي من أجل غيرة عمياء!
انسالت الدموع من عيوني وانتفضَ جسدي بقوة وأنا أضربُ فوق ثوبي محاولة إبعاد تلك الذكرى عن عقلي ونسيانها.
لقد عشتُ برفقة أرواحهم الطاهرة منذ قرابة العشرين عاماً،
التي ظهرت بعد حضوري العزاء برفقة العم جورج الذي دفن عائلتي و عائلته بعد ليلة شاقة و طويلة من البحث في الوادي عن الجثث، وعلى الرغم من معرفته بذنبي في قطع الفراملِ وتخريب عجلات السيارة، إلا أنَّه أخبرني بأنه لايوجد لي علاقة أو حتى سبب بوجود الموت من حولنا بل هو القضاء والقدر.
لقد اعتنى بي لعقدين كاملين كإبنة له دون أن يقوم بتذكيري في هذه الحادثة، بل اكتفى بتعليق الصورة التي كانت تجمعني بعائلتي والخالة عايدا وماريلا أيضاً.
في عُمقِ أعماقِ ذاتي كنت أشعرُ بالذنب تجاه ما حصل في ذلك اليوم، بل اعتبرتُ نفسي المجرمة، وحينما أخطو خطوة صغيرة للغفران والنسيان يقفز طيف ماريلا ليذكرني بما حصل.
حاولتُ السفر والذهاب بعيداً عن القصر لمئات المرات، لكنني مازلت تلك الطفلة التي تخشى من الشتاء البارد والذهاب دون عائلتها.
تنهَّدتُ بألمٍ وخوف قبل أن أضع عيني بعيني العم جورج وأقول له بهمس:
- لقد فضَّلتُ العيش مع طيف عائلتي على الذهاب نحو مكان مجهول لا أعرفه، و أنتَ من تبقى لي من عائلتي لا يمكنني التخلي عنكَ يا عم جورج..
احتضنني بقوة شديدة أشعرتني بالدفء، بينما لاحَ لي طيف ماريلا يبتسم لي بِخُبثٍ وهو عائداً نحو القصر."