لم تكن المرة الأولى التي يطردها فيها من بيته، فهي إما أن تنصاع لرغبته وأوامره أو يتفنن في تنغيص حياتها لتخضع، رفضها التام لممارساته ضدها وضد رغبتها المشروعة في الحياة جعلتها في نظره ناشزًا.
وسط دموعها التي تُغرق وجهها فتحت باب الشقة وهي تجر خلفها الحقيبة التي دست فيها بعض ملابسها هي وطفلتها بعدم انتظام جعل البعض منها يتدلى ويمنع إغلاقها جيدًا لولا هذا الحزام المشدود عليها، خَرَجَتْ ممسكة بيدها ذراع ابنتها التي تتعثر في نزول السلم ونظراتها حائرة ما بين أمها التي تبكي وأبيها الذي صَفَقَ الباب بقوة جعلتها تنتفض وتنفجر باكية.
خطواتها على الطريق متعثرة وكأنها تائهة، تتذكر كل المرات التي انتهت فيها مناقشتها معه وحُكمه عليها بترك بيته .. غير عابئ بوقت أو بظروف جوية، السماء تسقط المطر على وجهها وكأنها تشاركها البكاء، أو تتعاطف معها بإخفاء دموعها بماء منهمر، انتفضت الطفلة في يدها فقامت بحملها على كتفها وغطت رأسها بطرف الحجاب .
كل خطوة تخطوها تبعدها مسافات عن بيت تألمت فيه، وتقربها لبيت تُعَشَّم نفسها أن تجد فيه راحتها، عندما وصلت إلى بيت أبيها كانت وكأنها عبرت النهر سباحة، ارتمت على الباب الذي طرقته بيأس ففتحته أمها وفور أن رأتها أسرعت بحمل الطفلة عنها واختفت بها في إحدى الغرف وتركتها خلفها، لم تكن تسمع إلا صوتها وهي تتكلم عن نزولها بالطفلة في هذا المطر، فدخلت ووقفت في وسط الصالة ترتعش بلا حول ولا قوة، نزعت يدها المتيبسة عن الحقيبة وما إن تقدمت خطوة نحو الأريكة بغية الراحة حتى سقطت مغشيًا عليها.
تتلاقفها الأمواج، فتصارعها لتنجو، تستغيث .. تصرخ .. ثم تصحو فَزِعَة .. فتجد أمها وأخيها بجانبها، لسان حالهما ينطق بالتساؤل: ما الذي حدث؟!
من تحت الأغطية الدافئة وارتعاش جسدها الذي لا يتوقف، قامت واستندت على ذراعيها واعتدلت جالسة:
- يريدني أن أنجب له الولد .. وإلا تزوج مرة أخرى ..
تنظر في عيني أمها:
- لم يراعِ فَقْدِي لجنيني مراتٍ .. لم يأبه لتحذير الطبيب .. يريد إعادة الأمر غير عابئ بحياتي ..
لم يصدمها رد أخيها عندما قال:
- حقه أن يكون له ولد يحمل اسمه ويرثه .. فأنتِ لم تنجبي إلا أنثى .. كانت نظراتها له عتابًا صامتًا، فهو ذَكَر مثله .. لكن صدمتها الكبرى كانت في تأمين أمها على كلامه:
- جربي، لعل الله ينجيك ويرزقك هذه المرة بالولد ..
لم تجد سوى دموعها التي انهمرت تغرق خديها ردًا عليهما، لَفَّتْ وجهها عنهما، تمددت واحتضنت طفلتها النائمة بجانبها وأغمضت عينيها.
في الصباح بينما يظناها نائمة سمعت أخيها:
- يجب أن تعود لبيت زوجها .. لقد رتبتُ للزواج هنا، لا مكان لها ولا لابنتها، حتى لو تزوج عليها فهذا حقه ولا لوم لنا عليه ..
- لم تسمع من صوت أمها سوى التأمين على كلامه :
- معك حق، فنحن لا قدرة لنا به ولا بنفوذه .. كيف نعارضه وهو من تكفل بتعيينك، وبيده ضياع مستقبلك ..
- تردد الكلام داخلها كأنه زلزال يهز كيانها؛ فكتمت صراخًا كاد أن يحطم أضلعها.
في اليوم التالي، جاء زوجها ليصطحبها لمنزله، بعدما كَلَّمَهُ أخوها ليصلح بينهما، أو كما فهمت ليتودد إليه ويثبت له ولاءه، لم تنطق بكلمة؛ بل جَرَّتْ حقيبتها وأمسكت كف ابنتها ومشت خلفه!
عند الباب نظرتْ في المرآة المثبتة على الحائط؛ فرأت جثتها تمشي بلا روح.