تقررَ أنَّ يوم الخميس سيكون اليوم الرسمي للذبحِ في السلخانة، وعليهِ فإنَّ جزّاري القرية سيذهبون ببهائهم لتُبذبحَ بحضرةِ الطبيب البيطري ومن ثَمَّ تُزيّن بختم السلخانة، لم يُعجبهم ذلك، فماذا فعلوا؟
جعلوا لأنفسهم يومًا بعينهِ بعيدًا عن يومِ الخميس؛ ليهربوا من السلخانة وشروطها فكانَ الأربعاء!
العجيب في الأمرِ أنَّ أهل القرية يتزاحمونَ يوم الأربعاء على شراءِ اللحم من أولئكَ الجزّارين، بل وغيّروا يومهم المُفضّل والمخصوصِ بطهي اللحم إلى الأربعاءِ بدلاً من الخميس، أحقَّاً ما يفعلونهُ؟!
أمَا يدرونَ أنَّ ما فعلهُ جزّاريهم يدعو إلى القلقِ ولو بعض الشيء؟
ألم يسألوا أنفسهم عن سببِ هروبِ الجزّارين من يومِ السلخانة وإبدالهِ بيومٍ آخر؟!
بل الأدهى والأمرّ أنَّ الجزّارين رُغم ذلك يتعاملونَ وكأنَّ شيئًا لم يَكُن، وما ذاكَ إلَّا من موافقةِ المُشترين على مُخالفتهم للسلخانة، ثُمَّ يتساءلونَ بعدَ ذلك من أينَ تأتيهم الأمراض؟!
تساءلتُ كثيرًا لماذا يفعل الجزّارونَ ذلك؟
ماذا لو كانتْ ذبائحهم تحمل أمراضًا ورُّبما أوبئة؟
كيف تُذبح في الشوارعِ في حين أنَّ السلخانة هي المكان المُخصص لذلك؟
كما أنَّها مُزودة بما يلزم وبحضرةِ طبيبٍ بيطري.
شعور التبلُّد يحدثُ بالتكرارِ فمثلًا إن أخطأ أحدهم وجاهرَ بأخطائهِ دونَ أن يردعهُ رادع فيتحوّل ذلك إلى تَقبُّلٍ (تبلُّد)، كما يُمكن أن يصير الخطأ أسلوب حياة حينَ لم يجدْ مَن يُصوّبه.
ما فعلهُ أهل القرية برضوخهم للجزّارين يؤكد أنَّ العقلَ زينة؛ فلو أعملوا عقولهم ما ابتاعوا ذلك اللحم منهم، بل ولرُّبما أبلغوا عنهم السلخانة، سيقول قائل: هذهِ فِتنة.. وأقولُ أنَّ هذا الرأي خاطيء فالإبلاغِ عن فسادٍ أو ضررٍ ظاهر ليس فِتنة بل هو حماية للصالحِ العام، أيضًا من السفهِ المُجاملة على حسابِ الصّحة أو ما يُمكن أن يضرّ بالفرد، فحينَ يبتاع هذا وذاكَ وذلكَ بغرضِ مُجاملةِ الجزّار الهارب من يومِ السلخانة يكون قد أضرّ نفسه وذويهِ بلحمٍ ذُبِحَ بعيدًا عن مكانِ ذبحهِ، ويُعتَبر ذلك بمثابةِ مُكافأةٍ منهُ للجزّار على فِعلتهِ النكراء.
يُعَدُّ الضمير هو المُنبّه الذاتي لصاحبهِ؛ حيثُ يرضى بفِعلِ الخيرِ ويمرض بعكسِ ذلك، حتّى يعود الفرد لرُشدهِ ويفعل ما يُرضي رَبّه فيرتاح ضميره.
اللوم ليسَ على الجزّارين _الهاربينَ من السلخانة_ وحدهم بل على المُشترينَ منهم أيضًا، والذين يُشاركونهم جُرم ذلكَ الأمر، دونَ النظرِ إلى الأضرارِ المُترتبة على فِعلهم، كما أنَّ أسعار ذبائحهم _ المذبوحة خارج السلخانة_ لا تقلّ عن أسعار المذبوحة داخل السلخانة وطِبقًا لقرارِ الطبيب البيطري، ومع ذلك يبتاعونَ منهم بكُلّ رضا.
العِبرة أنَّ إعمال العقل واجب فنحنُ في زمنِ العجائب، كما لا يجوز بأيّ حالٍ من الأحوالِ مُجاملة أحد على حساب فالصّحة، أو غيرها من الأمورِ التي يُمكن أن تضرّ بالفرد ورُّبما تُودي بحياته.
الأمانة مفهوم عام جامع لعِدّة مفاهيم فرعية كالصدق والإخلاص والنزاهة والوفاء والثبات على العهدِ، لذا فإنَّ الأمين شخص موثوق بهِ، فهو يُعامِلُ اللَّهَ قبل البشر، لا يُمكن أن تُغريهِ المُغرياتِ على إختلافِ أنواعها ما دامَ ثابتًا على مبدئه.
أمَّا الخائن فهو المُفتقِد إلى الأمانة ولم يتحلّى بإحدى صفاتها كالصدق مثلًا أو الوفاء، وهذا الشخص يكون منبذوًا من النَّاسِ لعدم ثقتهم بهِ وخوفهم منهُ.
وعن أولئكَ الجزّارين فقد ضيّعوا الأمانة بفِعلهم ومُخالفتهم لِمَا نَصَّ عليهِ قرار السلخانة، فلو كانوا أُمناء لفعلوا كما فعلَ جزّاري القُرى المُجاورة من ذبحِ بهائهم داخل السلخانة.
أذكُرُ حينَ تزوجتْ السيدة خديجة _رضي اللَّهُ عنها_ من أشرفِ الخلق سيدنا مُحمّدٍ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ الذي علمتْ عنهُ الأمانة والصدق فسارعتْ تطلب يده، ووضعتْ بين يديهِ تجارتها ومالها، واستأمنتهُ على نفسها ومالها بدون أيّ ضامن فقط لأمانتهِ وصدقه؛ فهو الصادق الأمين كما كانَ يُلَقب من قبلِ العرب حتّى قبل أن يبعث رسولًا للأمّة.