نشأ في بَيتٍ يُقدِّرُ العِلم ويُجلّ العُلماء، هَوَى القراءةَ مُنذُ صِغره، حَفِظَ كتابَ اللَّهِ العظيم، اجتهدَ في طلبِ العِلم، كما كانَ يَسيرُ على عَينِ أباهُ الشيخ المُعلّم إبراهيم.
أضحتْ القراءة همَّهُ الوحيد بعدَ استذكار دروسه، ظلّ صاحبُنا يقرأ ويقرأ ويقرأ حتّى قرأ عددًا كبيرًا من الكُتبِ المُتنوعة، وهو لم يتجاوز السادسةَ عشرَ بعد.
فكّرَ كثيرًا كيفَ يُمكنهُ إخراج بعضًا من مَكنونِ ما أوهبهُ اللَّه، حتّى اهتدى لقرارٍ رشيدٍ وهو أنْ يكتُبَ في مجلّة الأزهر؛ إذ كانَ أزهريًا.
فكتبَ مقالهُ الأوّل وهو ابنُ سبعةَ عشرَ عامًا، ورغم سنّهِ الصغير إلَّا أنَّهُ تَفوّقَ في كتابته، ما جعلَ مقالهُ يُنشرَ ضِمنَ عدد مجلّة الأزهر، فَرِحَ صاحبنا بكرمِ اللَّهِ له، وراحَ ببراءةِ قلبهِ يُطلِعُ مُعلّمهِ للُغةِ الإنجليزية ليُشاركهُ فرحته، لكنَّ المُعلّمَ قد خَلَفَ ظنَّه؛ إذ لم يُبدي أيّ إعجابٍ بقلمِ تلميذه، والذي هو أهلًا لهذا الإعجاب، بل نَظَرَ إليهِ بكِبرٍ قبلَ أنْ يُضيف: لعلَّ الشيخ فُلان ابنُ بلدتكَ هو مَن توّسطَ لكَ ليُنشرَ مقالك!
ألم يَعلم هذا المُعلّم أنَّ جَبر الخواطر على اللَّه؟
ماذا لو تصدّقَ عليهِ بكلمةٍ طيّبة، أكانتْ ستَتسبّبُ في موتهِ؟
أينَ هو من أخلاقِ المُعلّم؛ حيثُ التشجيع والدعم وإعطاء مِقدارًا من الأملِ للتلاميذ؟
ألم يعلم مدى تأثير الكلمة على النَّفس، خصوصًا في هذهِ السِن الخَطِرة من عُمرِ الإنسان؟
ضاقَ صدر صاحبنا لسماعهِ كلماتٍ من شأنها أنْ تُثّبط همّته، لكنَّهُ لم يرتكن لِما ألَّمَ بقلبهِ من خُذلانِ مُعلّمه، فطوى قلبهُ على جُرحهِ وراحَ يقرأ ويقرأ ويقرأ حتّى غدا مُميّزًا بينَ أقرانه، كما لم ينضب مِدادَ قلمهِ بل زادَ في الكتابةِ وأتقنها.
تَفوّقَ صاحبنا في الثانويةِ الأزهرية ثُمَّ التحقَ بالجامعة، وبعدَ أربع سنواتٍ تخرّجَ صاحبنا ليَشُّقَ طريقهِ في المجالِ الأقربُ إلى قلبهِ والأحبُّ لنفسه، مجال الصحافة.
ظلَّ صاحبنا الطَموح يبحث هُنا وهُناكَ عن عملٍ يَليقُ بما لاقاهُ من نَصبٍ ووصبٍ طِيلة سنوات الدراسة، في بادئ الأمر لم يَجد، لكنَّهُ بكُلِّ تأكيدٍ لم ييأس، وأخذَ يسعى ويسعى حتّى أخبرهُ أحدُهم أنَّ عليهِ الذهاب لإحدى الجرائد؛ كي يُقابِل أحد أعضاء مجلس إدارتها، ومن ثَمَّ يُعيّن بإحدى وظائفها، اِنفرجتْ أساريرهُ وظنَّ أنَّهُ قد وجدَ ما كانَ يبحث عنه.
مَضى يومانِ وحانَ موعِدِ المُقابلة، ارتدى صاحبنا بذلتهُ المُتناسقة، وحذاءهُ اللامع، ليبدو حَسن الهِندام.
ذهبَ وجلسَ ينتظر حتّى حانَ دوره، دلفَ وفي مُخيّلتهِ أنْ يَلقى ترحابًا وحفاوة، لكنَّ ذلكَ لم يحدُث؛ إذ لاقى فتورًا وعدم تقدير من قِبلِ مَن أتى لمُقابلته، أخبرهُ بأنَّهُ قد جاءهُ بُناءً على رغبةِ فلان، لكنَّهُ لم يُعرِهُ أيّ اِنتباه، ولوّحَ بيدهِ ثُمَّ أضاف: ليسَ لدينا وظائف خالية، وعادَ يبحث في أوراقهِ عن شيءٍ ما في إشارةٍ منهُ بانتهاء المُقابلة.
لم ييأس صاحبنا من سوءِ القضاء، ورَضِيَ بما قدّرهُ اللَّهُ سُبحانَهُ وتعالى، وظلَّ يسعى ويسعى ويسعى مُتسلّحًا بالدُعاء، وآخذًا من الكتابِ رفيقٍ له، وجاعلًا ما يُلاقيهِ من تعنُّتٍ وقودَ قلمهِ الوّهاج.
أرادَ اللَّهُ لهُ الخيرَ فكانَ سفرهِ لإحدى الدول العربية الشقيقة؛ حيثُ لاقى التقدير الذي يستحقّهُ هُناك، وأخذَ اسمهُ في البزوغِ حتّى عُرِفَ وعُرفَ قلمه.
أثناء سنوات إقامتهِ هُناكَ عَمِلَ في إحدى الجمعياتِ الخيرية، وذات يومٍ ذهبَ إلى عملهِ ففوجئ بمجموعةٍ من الكُتبِ تبّرعَ بها أحدهم لتُوزّعَ على المكتبات، لم يصعد لمكتبهِ بل هرع إليها يتبيّنها؛ وما ذاكَ إلَّا لشدّةِ نَهمهِ للقراءةَ وحُبّهِ لها، فوقعَ بيدهِ كتابٌ لصاحبِ القلم الرحيم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع، أخذَ يتصفحهُ فإذ بقلبهِ يهفو لباقي ما ألَّفَ الراحل _رَحِمَهُ اللَّه_ ومن هُنا كانتْ البداية، بداية الحُبّ الخالص لوجهِ الرحمٰن، من قلبِ تلميذٍ لمُعلّمهِ وإنْ كانتْ الكُتب هي نبتةُ هذا الحُبّ.
ظلَّ صاحبنا يقرأ للأستاذ عبد الوهاب مطاوع حتّى أنهى جميع ما كتبهُ، ثُمَّ أعادها ثانية وثالثة وعاشرة، وحَزِنَ لموتهِ أيُّما حُزنٍ لكنَّ سلواهُ ما تحويهِ مكتبتهُ من مؤلفاتِ الراحل رَحِمَهُ اللَّه.
أرادَ أنْ يشكرَ التلميذ مُعلّمهُ فكتبَ فيهِ ترجمةً راقية، ما قرأها قارئٌ إلَّا وأثّرتْ في وجدانه.
كما اعتمدَ التلميذ على الاستدلال بمقولاتِ مُعلّمهِ في مُختلَفِ كتاباته؛ وحُقَّ لهُ ذلكَ فمقولات الأستاذ عبد الوهاب مطاوع إنْ أُضيفتْ لنصٍّ أثرته، لعدمِ خُلّوها من العِلمِ والإيمانِ والحِكمة.
عبد الوهاب مطاوع كانَ إنسانًا بكُلِّ ما تحملهُ الكلمة من معاني.
لم يعبأ صاحبنا لمجدٍ أو شُهرة؛ فما يَعنيهِ هو أنْ يَصِلَ العِلمُ إلى أكبرِ عددٍ من النَّاس، ليكونَ قد أدى الأمانةَ التي يحملها قلمه، والتي هي رسالةٌ سامية لا يُنكرها إلَّا جاهل أو حاقد.
كما يَعلمُ عِلمَ اليقين أنَّ للقلمِ رسالة لا بُدَّ من تبليغها بالوجهِ الذي يُرضي اللَّهَ سُبحانَهُ وتعالى، وكذا كانَ الأستاذ عبد الوهاب مطاوع _رَحِمَهُ اللَّه_ يُنّوه أنَّ الكلمة أمانة.