حينَ يحدثُ ما لم يَكُن يومًا بالحُسبانِ فإنَّ العقلَ يقفُ مشدوهًا نظرًا لعدم توقُعهِ ذلك أو قُلْ لحدوثِ ما فاقَ توقعاتهِ، وهذا ما حَدَثَ بالضبط بالنظرِ إلى قِصّة ريا وسكينة سَّفَّاحتا النساء في عشرينياتِ القرنِ الماضي.
سيدتانِ تجردتا من المشاعرِ والأحاسيس والرأفة والرّحمة بل والإنسانيةِ أيضًا، فقتلتا بمُعاونةِ أربعة رجال آخرين سبعة عشر امرأة بغرضِ سرقة مصوغاتهنَّ الذهبية، ومن ثَمَّ بيعها والإنفاقِ على أمزجتهم _كما هو معروف_ وسيقول أحدهم أنَّ عصابة ريا وسكينة ما هُم إلَّا ضحايا الفقر؛ وأقول إنَّهُ لمن الخطأ أن نخلط بينَ الأمور، إذ لا مُبرر لأولئكَ القتلة، فقد عاشوا حياتهم قبل فِعلتهم الشنيعة تلك ولم يموتوا جوعًا، بل تزوجتْ ريا وكذا شقيقتها سكينة وأنجبتْ الأولى دونَ الثانية، كما أنَّهم اتخذوا القتل عملًا لهم مع سبقِ الإصرارِ والترصُد، وكانوا على درايةٍ كاملة بجُرمِ ما يفعلونَ لذا قاموا بإخفاءِ جُثثِ الضحايا أسفل غُرفهم؛ ثُمَّ قاموا بالتمويهِ لتشتيتِ أفراد الشرطة في القسمِ الذي يقطنونَ خلفه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانتْ عصابة ريا وسكينة قد فعلوا ما فعلوا على لمبةِ جاز، فماذا كانوا سيفعلونَ بوجودِ الكهرباء والتكنولوجيا الحديثة؟!!!
أذهبُ بخيالي بعيدًا لأرى ريا وسكينة قد نظرتا لي ثُمَّ إبتسمتا واقتربتا منّي في زاويةٍ من زوايا سوق زنقة الستات!
تخوفتُ من قُربهما فحاولتُ الهربَ من نظراتهما اللاتي تُلاحقنني لكن دونَ جدوى، ألقت عليَّ الأولى التحيّة: سا الخير يا شابّة، رددتُ بمثلها، سألتني الثانية عن اسمي فأجبتُ ثُمَّ عرّفتاني عليهما فالأْولى ريا (سيدة ثلاثينية نحيفة ضعيفة البُنية، ليستْ على قدرٍ من الجمال، أُمّية لكنَّها ذكية بعض الشيء)، والثانية سكينة (امرأة كأُختها غير أنَّها تصغرها بعشرةِ أعوامٍ تقريبًا)، أخذتا تنصحاني بعدم الشراء من محلّ الأواني الذي أقفُ أمامه بحُجةِ أنهما لديهما بالبيتِ ما هو أعلى جودة وأرخص من هُنا.
تبسمتُ لهما وهممتُ بالذهابِ معهما لولا رنين هاتفي المحمول، أخرجتهُ فأغلقتُ المُنبّه ودسستهُ بحقيبةِ يدي، نظرتا لبعضهما ثُمَّ إليَّ وسألتني ريا: ما الذي رأيناهُ معكِ يا شابّة؟
وما هذهِ الحقيبة؟
بل ما هذا الجلباب الذي ترتدينهُ؟
تلعثمتُ قبلَ أن أُجيبها: هذا هو اختراع عصرنا، وهذهِ الحقيبة هي من تصميماتِ عصرنا، وكذا جلبابي.
سألتني سكينة: عصرنا.. ولكنَّنا لم نرى ما ذكرتِ.
أخبرتهما بأنَّني لستُ من ذلك العصر وإنَّما من العصرِ اللاحق، وما أتى بي إليهما سوى مُحاولتي السفر بخيالي!
لم تعيا قولي ومع ذلك أرادتا ذهابي معهما بشتّى الطُرق، أخبرتهما بأنَّني لا أتزيّنُ بالحُلّي، فسمعتُ ريا تقول لشقيقتها: يبدو أنَّ هذهِ الشابّة مجنونة ورُغم ذلك فما تحملهُ من حقيبةٍ واختراعٍ يستحق دفنها بجوارِ مَن يرقدنَّ أسفل الغُرفة!
لم تقبل سكينة بكلامِ ريا: وأنّى لنا بمَن يشتري منّا هذا الاختراع؟
ريا: لا تقلقي سنفعل ما بوسعنا لنبيعهُ، بل وسنجد مَن يشتريهِ بما نُريد؛ فهذا الاختراع يبدو أنَّهُ بالغ الأهمية، ورُّبما كانتْ جاسوسة وهذا الجهاز هو سرّ جاسوسيتها، فإنّنا في الحالتينِ سنربح لا شك.
تساءلت سكينة: أتظنّينَ أنَّ هذهِ الشابّة مصرية؟
ريا: هذهِ الشابّة قد بدى لي أنَّها ليستْ مصرية، ثقي بي.
تساءلتْ سكينة في دهشةٍ: وكيفَ عرفتِ ذلك؟
ريا بصوتٍ تملأهُ الثقة: من حقيبتها الغريبة وزيّها العجيب، والجهاز المُذهل الذي تحملهُ، كما أنَّها قد نطقتْ بعض المُصطلحات الإنجليزية والتي سَمِعها عبد العال من أحدِ الإنجليز وأخبرنا بها.
سكينة: ما هذا العقل الذي تحملينهُ ريا، الحقُّ معكِ، إذًا فليكُن ما أردتِ.
أخذتاني من يدي وأسرعتا بي فرأيتني أجولُ بينَ حَوارٍ ضيقة حتّى إذا ما قالت ريا: ها قد وصلنا فأصابني الدوار بعدما سرتْ القشعريرة ببدني وما شعرتُ إلَّا بأخي يوسف يُناديني: مريم هيّا إلى المطبخِ لتتفقدي البسيمة فرائحتها الزكية قد عَمّتْ أرجاء البيت.
حَمدتُ اللَّهَ أنَّ ما حَدَثَ كانَ خيالًا وهرعتُ إلى البسيمة.