هل تتصور أن يبكي هذا الرجل الذي قهر الساسة والوزراء والأحزاب وزلزل العروش والحكومات، بل دفعته شجاعته يوما أن يقف في البرلمان ليهوي بلهيب كلماته على أكبر رجل في البلاد متوعدًا منذرًا له بتحطيم رأسه؟
هل تتخيل أن يكون الرجل الذي لقبوه بالكاتب الجبار والعملاق، وكان الجميع يخشاه ويحاذره ويسمونه بالوحش الذي يطلقه الوفد على خصومه، أن يكون في كثير من حالاته منتهى الرقة والعطف والحنو الذي لو شاهدته عليه، لجزمت بأنه أضعف الرجال وأوهن الناس، والذين يعرفونه حق المعرفة يندهشون دهشة من رأى جبلا يبكي ويئن، ويسائل أحدهم نفسه في حيرة: كيف يبكي الجبل، وكيف انحدرت منه الدموع، أفي الجبل دموع؟!
كان هذا حال الأستاذ العقاد، الذي كان في حومة الصراع أسدا كاسرا، لم تنس الإنسانية أن تبلغ به أعظم مبلغ.
ولعل أعظم ما نرصده في هذا الشأن وندلل به على فرط إنسانية العملاق، تلك الدموع التي سجلتها بعض مواقف العقاد الإنسان.
ولكن إياك ثم إياك أن تظنها مواقف نادرة لا يعول عليها، فطاهر الطناحي يجيبك ليخرجك من هذا الظن الخاطئ إذ يقول: "كان العقاد شديد الحساسية سريع البكاء، وقد أثبتت المراجع العلمية والنفسية أن أقوى الرجال أسرعهم إلى التأثر والبكاء."
أما المشهد الأول حينما كان مسجونًا بتهمة العيب في الذات الملكية، وقع نظره يومًا على شرطي يهوي بسوطه على ظهر سجين، ثم ينبثق الدم من ظهر المسكين، فعاد العقاد على السجن باكياً، وقلبه يكاد ينفطر شفقة ورحمة، ومكث مريضاً مدة أسبوع كامل، ولم يستطع النوم ثلاث ليال بأكملها، وظلت صورة الدم على ظهر السجين تشاغل عينيه، واستمرت أناّت الرجل تدوي في أذنه، ولم يرحم خياله من أن ذلك الرجل قد أتى ذنبًا استحق عليه العذاب.!
وأما المشهد الثاني فحينما ذهب يشاهد فيلما في السينما تحت عنوان مجنون يغني، كان بطل الفيلم مطربا رزق طفلا أحبه حبا عظيما وكان يدلله بالأغاني ويطلب منه ترديدها في الحفلات التي يحضرها، وفجأة مرض الطفل فتألم الرجل ، وظهرت عليه علامات الكآبة والألم، واستدعى إليه الطبيب لعلاجه فجاءه الطبيب مرات ومرات وفي المرة الأخيرة أرخى الغطاء على وجه الطفل إشارة إلى موته.. وكان على هذا المطرب أن يغني في نفس تلك الليلة التي مات فيها طفله، فقام وغنى تلك الأغنية التي وضعها له والتي كانت بعنوان الولد المشرق، ولما انتهى منها سقط مغشيا عليه.
وهنا يأتي العقاد الذي تأثر بالموقف وبكى عندما رأى الطبيب يضع الغطاء على وجه الطفل، وبكى مرة ثانية وهو يشاهد الأب المفجوع يعني أغنيته التي وضعها لطفله الحبيب.
أما المشهد الثالث: فحينما زار مي في محنتها الأخيرة، ووجدها مرتاعة هلعة خائفة، لم يجد مي تلك التي عرفها رمز الحكمة والجمال والإبداع، فلما سألها ما بها؟ أشارت إلى المنزل المواجه لها من نافذتها، فقال لها: ما خطب هذا المنزل؟ فقالت: عن به قوما يتربصون بي ليقتلوني، وأنا لم أصنع لهم شيئا!
- إن المنزل خال من السكان فماذا يضيرك منه؟
- إنهم مختفون وأنت لا تراهم ولكنني أبصرهم من حين لآخر.
ويتركها العقاد ويذهب إلى المنزل ويخاطبها من الشرفة ليقنعها أن المنزل خاليا لا يسكنه أحد، ولكنها لا تقتنع.
وطلبت أمامه قدحا من الماء، فلما أحضره الخادم، أبت أن تشربه خشية أن يكون به سم يقتلها، فأخذ العقاد الماء وشربه ليقنعها أن لا شيء فيه ولكنها كذلك لم تقتنع.
ورجع العقاد إلى بيته وهو لم يصدق ما رأى مما حل بعقل مي، واغرورقت عينه بالدموع من أجلها.
كانت هذه بعض المشاهد لدموع العقاد الإنسان، العقاد الرقيق، بل العقاد الضعيف إن فرض علينا المعنى هنا أن نصفه بالضعف، فهو الضعف في مقام الشرف والرفعة، لا في مقام الذم والخيبة.