ما أجدر أن تقوم أبحاثنا على رصد التحولات الفكرية والعقلية التي زلزلت مفاهيم كثير من الأدباء والمفكرين الكبار، فاجترتهم إلى الإيمان بأصولهم اجترارا عظيما تبينوا معه خطأ ما كانوا عليه من ظلم لحضارتهم وافتيات على تاريخهم وأمتهم وتراثهم.
لم يكن (محمد حسين هيكل) باشا اسما لمع في سماء السياسة المصرية فقط، وإنما كان أديبًا ومفكرًا من أعظم مفكريها المعتبرين، ولقد كان هيكل واحدًا من الأدباء والمفكرين الذين كانت لهم رجعة وأوبة إسلامية يتنكرها التاريخ ولا يلقي لها بالا، بل إنها تسببت أن يصيبه داء الإهمال والتغافل، بعد أن كان ملء السمع والبصر، ولو أنه ظل على ضلاله القديم، لكان اسمه يدوي في المحافل إلى اليوم، شأنه في هذا شأن طه حسين وغيره من صنائع الفكر الغربي، لكن هيكل لم يكن يعبأ بكل هذا وإنما يعتز بفكره وحده، الذي تبينت له الحقيقة فأنصفها ولم يخف أو يتوارى بهذا الإنصاف، وإنما أعلنه في كتاباته الإسلامية الرصينة التي ان دلت فإنما تدل على رجل ذاب هياما في تاريخ أمته وعظمة رموزها، فكانت مؤلفاته الشاهقة: حياة محمد
1937 – في منزل الوحي
1942 – الصديق أبو بكر
1944 – الفاروق عمر
1960 – الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
1964 – الإيمان والمعرفة والفلسفة
1964 – عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
وحياة محمد.
سافر هيكل إلى فرنسا وفي مدينة النور، تلقى مبادئ الحضارة الأوربية ويدرس القانون ويطالع آثار أدبائها ومفكريها الكبار، فتشرب روح هذه الحضارة تشربا متغلغلا يصل كمما قيل: إلى حد النخاع الرقيق في تركيبه العضوي، وعاد إلى مصر ليعلن مع زمرة من زملائه إيمانهم المطلق بهذه الحضارة التي آمنوا بها، وأنها سبيل الخلاص ومعجزة الإنقاذ.
ووجد هيكل وزملاءه تشجيعا كبيرا ورعاية وعناية من الاستعمار وعملائه، فمنحوهم وصدرهم وجعلوا منهم سدنة التوجيه وقادة الرأي، وفجأة تقوم الحرب العالمية الثانية وتنتكس الحارة الأوروبية في عين عشاقها وربائبها وقد رؤوها بين عشية وضحاها تتحول إلى غابة موحشة تعج بوحوش لا إنسانية لهم، تهلك الحرث والنسل وتصب لهيب مدافعها على الأبرياء والآمنين، فخربت الدور ودمرت المدن، وخلفت وراءها صراخ الثكالى والأيتام والرامل، ودماء وأشلاء أدمت الأرض في كل مكان.
أفاق هيكل على هذا الزلزال الذي بدد أكذوبة الحضارة الغربية وزيفها الخادع، فماذا يفعل ، وما المبادئ التي يجب أن تحل في إيمانه بعدما انكشف له فساد إيمانه القديم؟!
توجه هيكل باشا إلى الدعوة للحضارة الفرعونية وإيقاظ مجدها فكتب مقالات تشيد بالفرعونية وتعتبرها صيحة البعث المرتقب، ودعا الناس أن يستمدوا أمجادهم من خوفوا ورمسيس وتحتمس، وأن سيرتهم مبعث الغيرة التي تلهب الحنين إلى المجد.
ونظر هيكل إلى منحاه الجديد وكان صادقا موضوعيا مع نفسه حينما أخبره التاريخ أن المصريين قد قطعوا أسبابهم بتراث الفارعين وآمنوا بحضارة الإسلام ، وبأن عظماء الإسلام ورموزه الكبار صاروا في أعينهم ويقينهم من رميم مدفون في الأهرامات والكرنك ومقابر القدماء، فاء إلى رشده، ودعوى في روعه صوت الحق الذي يناديه ، فتوجه إلى الحضارة الإسلامية، موقنا أنها الوجهة الصحيحة التي يمكن لها أن تؤدي رسالتها في بعث الضمير والروح والعزة والمجد، فأخذ يدرس أسفارها ويتمعن في تراثها حتى آمن بها إيمانه العظيم الذي لا يتخلله ريب، وصار من دعاتها الكبار، جنديا تحت لوائها ورايتها ، يسخر قلمه وفكره في إبراز محاسنها وجمالياتها لأنها النبراس الحقيقي الذي يضيء الطريق، وقال بعد أن اعتذر عن همه القديم: " لقد رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو"
هكذا كان هيكل وهكذا كانت رجعته التي يتجاهلها أهل عصره، لأنها شهادة من ربيب الحضارة الغربية ، بسقوطها وزيفها وفسادها وعدم صلاحيتها لقيادة البشرية، وأن السبيل وحده في إسلامنا لا فرعونيتنا.