قلت له وأنا بزّعق:
ـ أنا مش عايز لف ودوران! الطفل اتقتل في العمارة اللي انت غفير عليها، تقدر تقولي كنت فين من يومين؟
قال وهو منهار:
ـ يا بيه، انت عايز تلبسني مصيبة؟!
أنا باخد أجازة خميس وجمعة، علشان أنا مش من البلد هنا، وباجي السبت.
أنا كنت لسه جاي لما شُفتكم!
بصيت له وأنا ماسك الملف، وقلت بحزم:
ـ يعني كنت غايب الخميس والجمعة؟
هزّ راسه بسرعة وقال:
ـ أيوه يا بيه، وعندي شهود، مرات خالي كانت عندنا، والناس في البلد بتاعتي شافوني.
قلت وأنا بقلب الورق قدامي:
ـ طيب يا أشرف، العمارة دي مفيهاش بوابة أو قفل، أي حد ممكن يدخل كده؟
قال:
ـ للأسف لأ، لسه ما ركبوش بوابة
قلت له: "حلو أوي، بس مفيش عمال بتيجي؟ ولا أي حد بيدخل العمارة؟"
رد وقال: "يا بيه، صاحب العمارة مسافر بره، ومش بييجي غير مرة في السنة، في شهر ٧، وساعتها بيجيب العمال يشتغلوا كام شهر، ولما يسافر الشغل بيقف."
قلت وأنا بقلع الكرافتة: "يعني مفيش حد بيدخل ولا يخرج من العمارة غيرك؟"
قال وهو موطي رأسه: "لا يا بيه، طول ما أنا موجود، محدش بيدخل ولا يخرج."
سألته: "مفيش غفير غيرك يا أشرف؟"
هز رأسه وقال: "لا يا بيه، أنا بس."
قلت له باستغراب: "وبتنام فين بالليل؟"
رد: "أنا بنيت عشّة قدام العمارة وببات فيها."
سألته: "تمام، بس في الفترة الأخيرة مشوفتش أي حد غريب في المنطقة؟ أو حد سألك عن عنوان أو عن بيت الطفل مثلًا؟"
قال وهو بيعدّل الطاقية على راسه: "لا يا بيه، الحتة دي ساكتة، بالنهار شوية عيال بيلعبوا، وعلى المغرب مفيش حد خالص."
قولتله باستفهام: "بس قولي يا أشرف، ليه المكان مفيهوش أي كاميرات؟ مع إن المفروض صاحب العمارة يعمل تأمين كويس بكاميرات؟"
رد بتنهيدة: "أصل يا بيه، كل ما يركب كاميرا تتسرق في أيام أجازتي، فبطل يركب. وأنا قلت له يركب بوابة ويعمل لي أوضة أجيب مراتي وعيالي وأقعد فيها على طول، رفض."
قلت له: "تمام أوي، تقدر تمشي دلوقتي، بس مفيش سفر خالص غير لما القضية دي تخلص، علشان ممكن نحقق معاك تاني."
قال وهو متضايق: "يا بيه، أنا ماليش دعوة بحاجة."
قلت وأنا بهز راسي: "مفهوم، مفهوم... بس احتياطي، يمكن نحتاج نسألك شوية حاجات تانية تفيدنا في القضية."
أعدت افكر... مين ممكن يكون له مصلحة في قتل الطفل ده؟ وليه؟
دخل العسكري وهو ماسك تقرير الطب الشرعي.
ولما قريته، استغربت أكتر...
مافيش سرقة أعضاء، ولا تحرش، ولا حتى ضرب في أي مكان في جسمه!
يعني اللي خد الطفل كان عنده هدف واحد بس يقتله.
قلت للعسكري وأنا بكمل قراءة في التقرير:
"شوفلي أبو الطفل... جه؟ ولا لسه؟ عايز أحقق معاه هو كمان."
رد العسكري وهو بيتحرك: "تمام يا أفندم."
روحت البيت يومها، بس صورة الطفل ماكانتش راضية تروح من بالي.
ومن بدري نزلت وعدّيت على بيت سناء.
طلعت لي مخضوضة:
– فيه إيه يا بيه؟ حصل حاجة؟
قولتلها وأنا بحاول أهديها:
– لا، مفيش... بس مفروض جوزك يكون جه، مش كده؟
وطّت وقالتلي:
– أنا قلت له يا بيه، زعل أوي... وهييجي النهارده على العصر.
قولتلها بعصبية:
– إنتي بتهزري؟! ابنه اتقتل، ويسيبه وييجي العصر؟! إزاي مايسيبش اللي في إيده ويجي يجري؟!
قالتلي بتوتر:
– هو... هو كان ناوي ييجي يا بيه، بس ملقاش قطر وقتها يجيبه... أيوه، هي المواصلات السبب.
قولتلها وأنا متنرفز جدًا:
– جوزك يكون عندي النهارده يا سناء. تتصرفي وتبلّغيه. وقوليله إن ماجاش، مش هيحصل كويس... ده ابنه مقتول! إيه التهريج ده؟!
قالتلي وهي بتعيط:
– مش هترجعولي ابني يا بيه... ادفنه وناخد عزاه! مش كفاية ماعرفتش آخده في حضني؟!
قولتلها وأنا بحاول أهدى:
– إن شاء الله يا سناء، هنكمل الإجراءات بتاعت الطب الشرعي، وأبوه ييجي ونسلمه ابنه... وربنا يصبّرك يا رب.
مشيت ورحت القسم، وقعدت أقرأ ملف الطب الشرعي تاني، بس مفيش أي جديد. الطفل مدبوح من رقبته بآلة حادة.
على الضهر، دخل العسكري عليّا وقال:
"أبو الطفل عبد الرحمن برّه يا أفندم، وسناء معاه."
قلت له وأنا بشاور بإيدي:
"دخّله بسرعة... بس خلّي سناء برّه."
خرج بسرعة، وبعد لحظات دخل راجل في أواخر التلاتينات، أسمر، طويل، لابس قميص وبنطلون، وعينيه حمراء من كتر العياط.
شاورت له يقعد، وقلت له:
"اسمك وسنك وبتشتغل إيه؟"
رد بصوت واطي، بيكتم دموعه:
"اسمي مصطفى إبراهيم الشرقاوي، عندي ٣٥ سنة، بشتغل موظف في الري."
كتبت بياناته، وسألته:
"متجوز بقالك قد إيه يا مصطفى؟"
قال وهو بيفكر:
"من حوالي ١٥ سنة يا بيه."
قلت له باستغراب:
"عندك أولاد تاني غير عبد الرحمن؟"
سكت شوية، وقال:
"لا يا بيه، مفيش... عبده بس."
سألته وأنا رايح أقعد قدامه:
"بتيجي البلد كل قد إيه؟"
قال:
"يعني يا بيه حسب الظروف... ساعات كل جمعة، وساعات مش بقدر، ممكن مرّة في الشهر كده، بس مصاريفهم بتوصلهم."
قربت منه، وسألته بهدوء:
"مش غريبة تعرف إن ابنك اتقتل امبارح، وما تجيش غير النهارده؟"
رد بتوتر:
"أصل يعني يا بيه، لما عرفت الخبر... أغمى عليا، ولما فُقت وقدرت أمشي على رجلي، جيت على طول."
قمت من مكاني، ووقفت قدامه، وقلت له:
"يعني مش المواصلات اللي عطلتك؟"
بص في الأرض وقال:
"لا يا بيه... هو أنا تعبت جامد لما عرفت."
سألته وأنا حاطط إيدي على دقني:
"ليه ما خدتش مراتك وابنك وسكنتوا في مصر بدل ما كل واحد في حتة؟"
رد بعد ما سكت شويه:
"أصل حماتي بتحب البلد ومش عايزة تسيبها، وهي ست مريضة... ومراتي بترعاها."
بصيت له بتركيز، وسألته:
"قولي... ملكش أعداء؟ حد بيكرهك للدرجة إنه يقتل ابنك؟"
رد بسرعة، وصوته عالي:
"لا لا يا بيه، أنا راجل في حالي، ومن ساعة ما أمي ماتت السنة اللي فاتت، وأبويا لحقها، وأنا بقيت مقطوع من شجرة... مليش حد."
قلت له:
"ياريت يا مصطفى تفضل في البلد لحد ما نخلص التحقيق، وكمان علشان أول ما الطب الشرعي يخلص الورق، تستلم ابنك."
اتنفض وقال:
"وشغلي يا بيه! أنا كده هترفد، ما ينفعش أسيبه... لازم أرجع بكره بالكتير."
قلت له وأنا متعصب:
"شغل إيه؟! بقولك ابنك مقتول! إنت حتى مش عايز تستنى تستلمه!"
قام وقف وقالي وهو بيرتعش:
– مش قصدي والله يا بيه، بس أكل عيشي... هسافر بس آخد أجازة وارجع.
قولتله وأنا بنفخ:
– هات بطاقتك... خليني أخلص.
ادّاني البطاقة وهو لسه بيرتعش، خدتها منه ورميتها للعسكري:
– صوّر البطاقة دي وهاتهالي بسرعة.
رجعت بصيتله وقلت:
– بص يا مصطفى، لو فيه حاجة تعرفها ومخبّيها، موقفك هيبقى صعب.
أي حاجة تعرفها حتى لو صغيرة، ممكن تفيدنا في القضية.
قُلهالي علشان نعرف نجيب حق ابنك.
قالي وهو بيحاول يتمالك نفسه:
– معرفش والله يا بيه، لو كنت أعرف كنت قولت.
نفسي تمسك اللي عمل كده بسرعة... نفسي أقتله بإيديا.
طفل عنده ٥ سنين! عمله إيه علشان يموت كده؟!
العسكري جه واداني صورة البطاقة، رجّعت الأصل لمصطفى وأنا بقوله:
– سافر، وخد الأجازة اللي قلت عليها، وارجع بأسرع وقت... حتى لو ماقدرتش تاخدها.
قالي:
– حاضر يا بيه، هو يوم بليلة وهكون هنا.
العسكري دخل تاني وقال:
– سناء برّه يا أفندم، قلقانة وعايزة تدخل.
بصيتله وقلتله:
– دخلها، هو كده كده خلّص، بس نطمنها.
دخلت سناء، وعينيها مليانة قلق، وقالت:
– طوّلتوا أوي يا بيه... فيه جديد في القضية؟
قولت لها وأنا مركز في عينيها:
– قولتيلي يا سناء إنه مجاش من امبارح علشان مكنش فيه مواصلات...
غريبة، هو قاللي إنه تعب وداخ، علشان كده مجاش.
وقبل ما ترد، قطعها مصطفى وقال وهو متوتر:
– هي متعرفش يا بيه، أنا قولتلها حكاية المواصلات علشان ما تتخضّش عليا يعني