قصة قصيرة
كان يافعًا عندما قال أبوه له ذات مرة: (سنقرئك يا بني فلا تنس. هذه الأرض لنا.. وكل ما فيها بماضيها و آتيها لنا). و اقتطع من رسغه ساعة (الجوفيال)، و أهداها إياه: هي لك يا بني، فوقتي قد بدأ ينفد، ووقتك بدأ للتو.
و نسي ما قرأ أبوه عليه!
كان ذلك قبل أربعين عامًا، قبل أن يموت أبوه قهرًا، وقبل أن تغدو "رفح" مثل نافذة كانت مفتوحة وأغلقها الإعصار بعنف..
أنهى الثانوية والتحق بكلية آداب"القاهرة"، التي سرقت إحدى بناتها قلبه وساعة أبيه..
أخبرته الفتاة ذات مرة بأن أمها عرّافة تقرأ الكف، وطلبت منه بغنج أن يزورهم ليتعرّف إليها، وتقرأ كفه.
مد يده لأمها، قرأت كفه، قالت: أنت غريب وستظل غريبًا..
ضمت كفه، واستأنفت: أنت ابن حظ، فخذ بنصحي و اغنم حاضرك ما استطعت، قبل أن تزلزل الأرض زلزالها، و تفِرّون منها أشتاتًا، ويتناقل العالم أخباركم وأخبارها..
قال في سِرِّه: "كذب المنجمون ولو صدفوا"
كان حالمًا ومتفائلاً، ولم يعر قولها اهتماما، واحتاج إلى أعوام كثيرة كي يصدق ما قالت، وما قرأ أبوه عليه من قبل، و نسيه.
استعادت مخيلته وجه أبيه، أحزنه بشدة عندما رآه يبكي، قال له باكيًا: لقد قضي الأمر يا أبي، فلم تعد الأرض لنا، ولم يعد لنا منها غير ماضيها، أما آتيها فليس لنا، لغيرنا..، وسنظل (لا نلبس في البرد إلا عرينا، وفي الجوع لا نأكل إلا جوعنا..)
قصَّ عليَّ ما حدث، وبكى وهو يقول: ليته لم يكبر ويفهم..
أخذ ينتحب كطفل يبحث عن أمه، هدأت من روعه. هدأ، فواصل بنبرة ندم: وليته لم يأخذ بنصح العرّافة من قبل و يلهو إلى الحد الذي أفقده الثقة في حواء، وما زال لا يصدق كيف نجحت فتاة من أرض (سين) في فك عقدته، وايقاعه في شراكها.
تزوج فتاة من المدينة، لا تشبهه، و هو نادم على أنه لم يأخذ بنصحها وابتاع شقة تقع على طرف مدينة "العريش"، تُطِلُّ شرفتها على شارع كانت تُحِده الألغام، ويُحِده الآن الهيش والمجهول..
امرأة نقيّة، تقيّة، ويقدِّر لها صبرها على نزقه وطيشه، ومشاركته حزنه العميق على ضياع موطنه..، ومعه منزلهم القديم الواسع، المسقوف بالقرميد، وله مزراب كان يأتي لهم بماء الغيم، الذي لم يعد حلوًا كما كان..
وواصل في أسى:
باب شقته ضيّق بالكاد يسمح لمرور كذب أصدقائه، بقولهم "إن الفرج قريب"، و هو يراه بعيدًا، و نافذة شقته أضيق من أن تسمح بخروج أحزانه، ولو لبعض الوقت، وبالكاد تكفي لأن يطل منها برأسه المثقلة بالخيبات والأسئلة، ويحدِّق في عتمة الليل ويبكي، وفي النهار لا يكف عن لعن ابنة "القاهرة"، التي سرقت حلمه وساعة أبيه..
…………..
العنوان ودلالته
يحمل العنوان دلالة رمزية عميقة، حيث يشير إلى إرث الآباء الذي يتوارثه الأبناء، لكنهم أحيانًا ينسونه أو يغفلون عنه بفعل الزمن والتغيرات الحياتية.
"ما قرأ أبوه عليه" يمثل القيم والمبادئ التي غرسها الأب في الابن، بينما "ونسيه" يعكس التباين بين الماضي والحاضر، وبين الأمل والخذلان.
الثيمة الرئيسية
تدور القصة حول فكرة الضياع والاقتلاع، سواء من الناحية المكانية (فقدان الوطن أو الموطن)، أو العاطفية (الخيانة العاطفية )، أو الوجودية (التشتت في الهوية والانتماء).
الشخصية الرئيسية تمثل نموذجًا للإنسان( و تتحدث القصة عن الإنسان ( الرفحي) نسبة إلى (رفح) إحدى مدن شمال سيناء. الإنسان أو ابن رفح الذي أُجبر على مغادرتها وحمل معه حلم العودة إليها، لكنه وجد نفسه غريبًا، سواء في الأرض التي لجأ إليها أو في العلاقات التي نسجها هناك.
البناء السردي وتقنيات السرد
1. السرد الزمني
يعتمد الكاتب عبدالله السلايمة على التقديم والتأخير، حيث يبدأ بمشهد من الماضي عندما أعطى الأب ابنه ساعة "الجوفيال" كرمز للزمن القادم والمسؤولية التي تنتظره. ثم ينتقل بنا إلى الحاضر حيث يعاني البطل من الفقدان والتشظي.
2. اللغة والأسلوب
اللغة مشحونة بالعاطفة وتتميز بجماليات التعبير، حيث نجد استعارات وصورًا شعرية تعكس الحالة النفسية للبطل، مثل:
"أغلقها الإعصار بعنف" دلالة على الفقد القسري للمدينة.
"ماء الغيم، الذي لم يعد حلوًا كما كان" استدعاء النوستالجيا للماضي الجميل مقارنة بالحاضر المرير.
"باب شقته ضيّق بالكاد يسمح لمرور كذب أصدقائه"صورة رمزية لحالة الحصار النفسي الذي يعانيه البطل.
3. الرمزية
القصة مليئة بالرموز التي تعكس الوضع السياسي والاجتماعي، مثل: ساعة الجوفيال: ترمز للزمن، والمسؤولية، والإرث المفقود.
العرافة: ترمز إلى تحذيرات القدر التي لم يصدقها البطل إلا بعد فوات الأوان.
النافذة الضيقة: تشير إلى ضيق الأفق وانسداد الأمل.
المزراب الذي لم يعد يعطي ماءً حلوًا: دلالة على تبدل الأحوال وضياع الماضي الجميل.
الشخصيات
1. البطل (الراوي):
شخصية مركبة تجمع بين الحلم والانكسار. يبدأ حياته متفائلًا وحالمًا، لكنه ينتهي غارقًا في الخيبة والندم، متأرجحًا بين ماضيه المثالي وحاضره القاسي.
2. الأب:
يمثّل الجيل الذي عاش القضية بحقيقتها الموجعة، وحاول توريث ابنه الوعي والانتماء، لكنه مات قهرًا بعدما أدرك ضياع كل شيء.
3. الفتاة وأمها العرافة:
تمثل الفتاة ابنة القاهرة رمزًا للإغراء الذي شتت البطل عن قضيته، كما تمثل رمزًا لعاصمة الدولة، أو الدولة ذاتها، التي تسببت في وجود القضية، بينما تمثل أمها العرافة صوت التحذير الذي لم يستمع إليه.
4. الزوجة في العريش:
شخصية تمثل الأمل الممزوج بالصبر، لكنها لا تملأ الفراغ العاطفي والوطني الذي يعانيه البطل.
الثنائيات الضدية في القصة
الماضي مقابل الحاضر: يظهر البطل في صراع دائم بين الماضي الجميل والحاضر المأساوي.
الوطن مقابل المنفى: رفح المفقودة تمثل الوطن، بينما العريش والقاهرة تمثلان المنفى الروحي والجسدي.
الحب مقابل الخيانة: سرقة الفتاة لساعته تعكس الخيانة والخذلان العاطفي الذي تعرض له.
النهاية والتأويل
تأتي النهاية محملة بالأسى، حيث يظل البطل سجين أحزانه وخيباته. لا يجد متنفسًا سوى لعن الفتاة التي سرقت ساعته، وكأن الزمن نفسه قد سُرق منه. النهاية مفتوحة، لكنها تميل إلى التأكيد على أن الضياع ليس مجرد تجربة فردية، بل هو قدر جماعي يعانيه السيناوي في الشتات.
الخاتمة
قصة "ما قرأ أبوه عليه، ونسيه" نص عميق ومؤثر، يعكس ببراعة مأساة الاقتلاع من الوطن أو الموطن، ويقدم رؤية سردية تجمع بين الرمزية والشعرية والأسى الواقعي.
استطاع الكاتب عبدالله السلايمة أن يصوغ الحنين والخذلان في صور مجازية جميلة، مما يجعل النص مؤلمًا بقدر ما هو إبداعي.