صعدت إلى غرفتها كمن يصعدُ إلى منفاه. كاهلةً بحملٍ ثقيل.. ليس من حجرٍ ولا وريد، بل من فراغٍ عريض، يلفُّ روحها كما يُلفُّ الكفنُ الجثةَ الباردة. كانت تشعرُ بأن المللَ قد تحوّل إلى شبحٍ مرئيٍ لا يراه سواها، يسكنُ في زوايا الغرفة، يتنفسُ في وجهها كلما استدارت، يهمسُ في أذنيها بأن الحياةَ قد توقفت عند حافةِ هذا السرير.
رمت بنفسها على الوسادة كجثةٍ هامدة. استلقَت على ظهرها، محدّقةً في السقف الأبيض الذي بدا لها كصفحةٍ ميتة في كتاب الكون. لم تكن تنظرُ إليه، بل تنظرُ من خلاله.. إلى لا شيء. إلى الفراغ الذي صار كائناً ملموساً، يضغطُ على صدرها حتى كادت أنوارُ عينيها تنطفئ. لملمت ما تبقى من أشلاء روحها المبعثرة، ورفعت جسدها الغضّ بحركةٍ آلية، كأنما خيوطاً غير مرئيةٍ تشدُّها إلى واقعها المكرر. جلست على حافة السرير، وأصابعها تتشابكُ في شعرها الأشقر، فتنفشُه بعنف، وكأنها تريدُ أن تعاقبَ تلك الخصلات التي قضت ساعةً كاملةً هذا الصباح تُرتبها أمام المرآة، كأنما تتهيأُ لموعدٍ مع الحياة.. فإذا بالحياةُ لا تحفظُ مواعيدها.
انطلقت من بين شفتيها الزهريتين، المرسومتين بعناية كمسرحٍ للحياة التي لم تعشها، زفرةٌ طويلةٌ كادت روحها التائهة أن تتبعها. وقفت فجأةً في وسط الغرفة، وكأن قوةً خفيةً دفعت بها، وصاحت في صمتِ عالمها: "ألا يجبُ أن ينتهي كلّ هذا؟ ألا يجبُ أن أعيشَ مثلَ بقيةِ الناس؟ سأتغير.. يجبُ أن أتغير!"
لكنّ الصمتَ ظلّ مطبقاً. لم يسمعْ حتى صدى صوتها المكتوم، لأنه لم يغادرْ خاطرها ليصلَ إلى جدران الغرفة فتردَّه إليها. كانت كلماتُها كلاعبتيْ تنسٍ محترفتين في ملعبٍ غاب عنه جمهوره.. تتبادلان الضرباتِ في صمتٍ رهيب. كان الأمرُ كلُّه كومضةِ برقٍ في سماءِ نفسها، أتبعَها رعدٌ مدوٍّ.. لكنها لم تمطِرْ كالعادة. كانت كقراراتها كلِّها.. مجرد سحابةِ صيفٍ عابرة، لا تروي أرضاً ولا تنبتُ كلأ.
تحركت يدها الرقيقةُ بتشنجٍ واضح، كأنما تقاومُ قوةً خفيةً تدفعها إلى فعلِ ما لا تريد. أمسكت الهاتفَ الذي صار سلاسلَ في يديها، وأغلقته بضغطةٍ مفاجئة. كان عليها أن تغلقه.. فهو ذلك السجنُ الناعمُ الذي يأسرها في حدود الانتظار. منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي تعرفت فيه عليه.. كان رجلاً استثنائياً بكل المقاييس التي تعرفها. ولعلَّ مقاييسها في الرجالِ لم تكن مطابقةً للمواصفات العالمية، لكنها أحبته كما لم تحب امرأةٌ من قبل. لا تعرفُ الآن أيهم المشؤوم: يوم عرفته؟ أم يوم أحبته؟ أم كلُّ يومٍ تذكره فيه وتنتظر مكالمةً منه لا تأتي أبداً؟
جلست أمام الحاسوب، تقلّبُ تلك المواقعَ التي اعتادت زيارتها لقتل الوقت.. ولقتل نفسها ببطء، لأنها ارتكبت خطأَ عمرها: أحبّته. نفسُ الأشخاص، نفسُ الكلام، نفسُ الملل الذي صار رفيقَ دربها. كم تتمنى لو تغمض عينيها الحالمتان، لتجد شخصاً آخر تضعه مكانه في قلبها.. شخصاً مثله تماماً، لكنه لا يشبهه! رجلاً يملأ ذلك الفراغَ الهائل الذي أحدثه غيابه في أعماقها. أغلقت الحاسوب، ووضعت رأسها بين كفيها، وغاصت في عالم الوحدة الذي صار وطنها.
ثمّ، وكأنما تذكرت شيئاً ضائعاً، أخرجت من رفِّ مكتبها دفترَ يومياتها الفاخر.. ذلك الدفتر الذي لم تكتب فيه أيَّ شيءٍ من قبل. عندما كان هو معها، لم تكن تريدُ أن يشغلها عنه أيُّ شاغل، مهما كان بسيطاً. وعندما غاب، لم يعد هناك ما يكتب. فتحت الدفتر، وبدأت من أول الصفحة الأولى، البيضاءِ كثلجِ القطب الشمالي.. نقيةً كقلبها يوم أحبّت. كتبت تاريخ اليوم، فبدا الحبرُ الأسود كدمعةِ شيطانٍ أفسد نقاءَ الصفحة منذ البداية. لكنّ تاريخَ اليوم لم يكن تاريخَ اليوم.. بل كان تاريخَ ذلك اليوم الذي توقفتْ فيه عقاربُ ساعة قلبها عن الدوران. يوم غادرها.. غريبٌ كم يعلقُ بأذهاننا الشيءُ الوحيدُ الذي نريدُ أن ننساه! وكيف نستمرُّ في الحياة حاملينَ في صدورنا شظاياه.
قلّبت بصرها في أرجاء الغرفة بتذمّرٍ صامت. لمحةٌ إلى الجدار المقابل، حيث صورةٌ قديمةٌ تجمعهما في لحظةٍ من لحظات السعادة التي صارت الآن كالطعامِ الفاسد.. تشتهيه لكنه يقتلك. ولمحةٌ أخرى إلى الصفحة شبه البيضاء.. وبين الجدار والصفحة، كان هناك فراغُ الذكريات الممتلئ بأنفاسه وهمساته، بلمساته التي كانت كالنارِ على علم، بمكالماته التي كانت تأتيها كالمطرِ على أرضٍ جدباء، بضحكاته التي كانت تُضيء عالمها.. ثم بخيانته التي جاءت كالسكينِ في الظلام، بغيابه الذي صار كابوساً لا ينتهي، بألمها الذي صار رفيقَها الوفي، بعذابها الذي صار طعامَها وشرابها.. ثم بكثيرٍ من "الملل، ولا شيء غير الملل".
رفعت القلم مرة أخرى، وكتبت بخطٍّ مرتجف:
"لم أعد أحتمل هذا الثقل..هذا الانتظار الأبدي لشيءٍ لن يأتي. أشعرُ وكأنني أسكنُ في جسدٍ لا ينتمي إلي، وأعيشُ في حياةٍ ليست حياتي. كلُّ شيءٍ حولي يصرخُ بالرتابة.. حتى الهواءُ الذي أتنفسه أصبح ملوثاً بغبار الروتين. أين تلك الفتاةُ التي كانت تحلمُ؟ أين تلك العيونُ التي كانت ترى الجمالَ في أبسط الأشياء؟ لقد ماتت في مكانٍ ما.. وتركتْ هذه القشرةَ البشرية تجرّي وراء شبحِ الماضي."
دمعةٌ ساخنةٌ سقطت على الصفحة، لطختْ الحبرَ وكوّنت بقعةً زرقاءَ كبحيرةِ حزن. نظرت إلى البقعة، فرأت فيها انعكاسَ وجهها.. مشوهاً.. محطماً. أطبقت الدفتر بسرعة، كأنما تخشى أن تهربَ منها كلماتها فتراها عاريةً أمام المرآة.
نهضت من مقعدها، وتوجهت إلى النافذة. كانت الشمسُ تغربُ خلف الأفق، تاركةً السماءَ بلونٍ أحمر قانٍ كالجرح النازف. رأت الطيورَ تعودُ إلى أعشاشها، والناسَ يتجهون إلى بيوتهم.. كلُّ شيءٍ في هذا العالم له مكانٌ يذهب إليه.. كلُّ شيءٍ إلا هي. بقيت واقفةً هناك، تنتظرُ شيئاً لا تعرفه.. ربما غروباً آخر، أو ليلةً أطول، أو ربما.. مجردَ شجاعةٍ لتغيير شيءٍ في هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها دون أن تصلَ إلى أيّ مكان.
وأخيراً، أدركتْ أنها لن تجدَ خلاصها في انتظارِ أحد.. ولا في كتابةِ الشكاوى في دفاتر صماء. الخلاصُ يبدأ عندما تختارُ أن تعيشَ لنفسها، لا أن تموتَ لشبحٍ غادرها إلى غير رجعة. لكنّ هذه الإدراك، ككلِّ شيءٍ في حياتها الآن، كان مجردَ فكرةٍ عابرة.. تائهةٍ في بحرٍ من الملل.









































