بين ضجيج العالم الافتراضي وصمته، التقيا بمحض مقدر من الرحمة الإلهية . التي ترعى كل المخلوقات. لم تكن لقاءاتُهما سوى نقاط ضوء تتلألأ على شاشة صمّاء، تتحرّك بأصابع تخطّ كلماتٍ تبحث عن روح. في فضاء الشبكات الاجتماعيّة الملتزم بحدود الأدب والأخلاق، نشأت بينهما صداقةٌ غريبة، قوامُها اسمان افتراضيّان، وسيلٌ لا ينقطع من الحروف والكلمات.
كانت أحاديثهما البريئة كالفراشات تتراقص حول أسئلة الحياة. تحدّثا عن وحدتهما المتشابهة، عن التفاصيل الصغيرة التي تملأ أيامهما. تقاربت روحاهما رغم استحالة اللقاء، في جوٍّ من البراءة والسذاجة التي لا تعرف قسوة الواقع.
في تلك المساحات الافتراضية، كانت الروحان تسافران معاً، يتّسع القلب ليحتضن الكون كلّه. كانت الضّمة الرقمية الواحدة تكسر حاجز الزمن والمكان، وتجعل من المسافات ألفاظاً بلا معنى.
حاولا جاهدين أن يمسكا بتلابيب المنطق. تبادلا وعوداً متكررة: "لنبقَ أصدقاء فقط، فالصداقة أجمل من الحب". كانت قائمة المبررات طويلة: لا فراق في الصداقة، ولا ألم، ولا جراح، ولا حنين ينهش الروح. بنيا سدوداً من الحجج الواهية كي لا ينهارا معاً في هوّة الحب.
لكنّ الحب - كما يقولون - غُلاّب. يسحق السدود العظيمة في لحظة، ويجرف القلوب إلى حيث لا تدري. كم حاول الإنسان أن يقنع نفسه أنه لن يكون سعيداً إن أحب، لكنّ النظريات كلها تتهاوى أمام قلوبٍ قررت أن تعشق.
أخيراً، استسلما معاً. حزما ذكرياتهما الرقمية وركبا سفينة الحب عبر الأقمار الصناعية. ظلا يتبادلان الكلمات كالمنقذين من غرق، لكنّ معضلة البعد بقيت قائمةً كجبل شاهق. روحان تائهتان في فضاء واحد، وجسدان تفصل بينهما آلاف الأميال، وأبواب مغلقة أصاب أقفالها صدأ العادات والتقاليد.
في ليلة من ليالي الحنين الثقيلة، حين كان ألم الفراق كالسكين في الصدر، همس لها في لحظة ضعف: "لو بقينا أصدقاء لما عانينا كل هذا العذاب".
أجابته بدموعها التي لم يرها لكنه أحس بحرارتها عبر الشاشة: "لا أريدك صديقاً بلا مشاعر، أريدك حبيباً يكسو قلبي وروحي حُلّة العشق الأبدي".
غرقا في صمتٍ ثقيل يسبق العواصف، صمتٌ لم يكن انقطاعاً، بل كان استعداداً لمرحلة جديدة من رحلتهما الغريبة.
قال: "لأن القمر واحد، وهو يضيء عالمي وعالمكِ معاً. قد نكون تحت سماء مختلفة، لكننا ننظر إلى نفس النور".
صمتت قليلاً ثم كتبت: "إذاً فليكن حبنا كالقمر، يضيء ظلمة بعدنا، ويذكرنا أننا تحت سماء واحدة، وإن تعددت الأماكن".
لكن القلوب لها منطقها الخاص. في إحدى ليالي الصيف، بينما كانا يتحدثان. كتب : "أتعلمين أن هذه الكلمات لم تعد تكفيني؟ أريد أن أسمع صوتك الحقيقي، لا صداه الرقمي".
كانت تلك اللحظة بمثابة القفزة من عالم الكلمات إلى عالم المشاعر. بدآ يتحدثان عبر المكالمات الصوتية، وكان أول مرة يسمع فيها صوتها كالسمفونية التي انتظرها طويلاً. ثم تطور الأمر إلى مكالمات الفيديو، حيث رأيا وجهيْهما للمرة الأولى، وكأنهما يلتقيان بعد طول غياب.
رغم كل هذا، بقي حاجز المسافة قائماً. لم تكن مجرد أميال، بل كانت حدوداً سياسية وأوراقاً رسمية تعيق اللقاء. حاول مراراً الحصول على تأشيرة لزيارتها، لكن كل محاولاته باءت بالفشل.
ذات ليلة، بينما كانت تمرّ بظروف صعبة بسبب ظروف بلدها، شعر هو بالعجز الكبير. كتب لها: "أشعر كأنني حارسٌ لا يملك إلا الكلمات يحاول حماية قلعة من وقع الأحداث".
أجابته : "كلماتك أصبحت كالخبز والماء.. لا أستطيع العيش بدونهما".
مرت الأشهر وتوالت المحاولات، حتى قرر أن يلجأ إلى طريقة غير تقليدية. تواصل مع صديق له يعمل في إحدى شركات السياحة، وتمكّن من ترتيب رحلة إلى لبنان، بينما هي حصلت على تصريح للسفر إلى هناك.
كان اللقاء في مقهى في بيروت، حيث البحر يشهد على لقاءٍ انتظره الروحان طويلاً. حين رأيا بعضهما للمرة الأولى، لم تكن هناك حاجة للكلمات. عيناها تحدّقان في عينيه وكأنهما يقرآن كتاباً يعرفانه عن ظهر قلب. جلسا صامتيْن لدقائق، كلٌ يخشى أن يكون هذا حلماً سيتبخر.
قال بصوتٍ مرتجف: "أخيراً.. أصبحتِ حقيقة".
أجابت: "كنت دائماً حقيقي في قلبي".
قضيا ثلاثة أيام فقط، كانت أجمل أيام حياتهما. يتجولان في شوارع بيروت، يزوران معالمها، ويجلسان على الكورنيش يتحدثان كمن يعوّض سنوات من الانتظار. في الليلة الأخيرة، بينما كانا جالسيْن تحت ضوء القمر، تعاهدا على أن هذه البداية فقط، وأنهما سيجدان طريقة ليكونا معاً للأبد.
بعد عودتهما، استمرت العلاقة ولكن بطعم مختلف. لم تعد مجرد كلمات على شاشة، بل أصبحت ذكريات حية تدفئ قلوبيهما في ليالي البعد. بدآ يخططان للمستقبل، يدرسان الفرص المتاحة، ويتحديان كل الصعاب.
كانت رحلتهما كالبذرة التي تزرع في أرض صخرية، لكنها تتمسك بالحياة حتى تشقّ طريقها إلى النور. علمتهما أن الحب الحقيقي ليس مجرد مشاعر، بل هو إرادة وتصميم، وأن القلوب عندما تلتقي حقاً، فإنها تجد دائماً طريقة للوصول إلى بعضها.
كانا يجلسان كل مساء يتذكران رحلتهما الطويلة. تعلق صورتهما الأولى في بيروت على الحائط، وكتبت تحتها: "من الشاشة الصماء إلى الحياة.. رحلة حبٍّ انتصرت على كل حدود".









































