جلستْ أمامَ المرآةِ تزيدُ من بذخِ التأنق، تُطالعُ بشرتها الحنطيّةَ الغضة، تُلقِمُ شفاهها خضابَ الحمرة، تُرقدُ في مقلتيها أصيلَ الكحلِ العربي فتزدادانِ جاذبيةً وتوقدانِ شموساً لعاشقٍ ضال، تُغدقُ جيدها المرمريَّ عطراً مُعتّقاً أهداها إياه قبل سفره، لم تستخدمه قط، جعلته حصريّاً على شرفه، لفّت شعرها الخرافيّ، وأحكمت وثاقه كي لا يتسلل خفيةً من تحت الحجابِ يسترقُ النظر إلى المارة.
أنهت مراسمَ التزيُّن، واتجهت نحو غرفة ولديها _علي وعدي_ تتأكد من جاهزيتهما للمغادرة؛ فاليومَ مميزٌ لديهم، سيعودُ والدهم أحمد من السفر بعدَ غيابٍ طويل.
الفرحةُ تسقطُ من أعينهم، وتتناثرُ في الأرجاء، يُهرولون الخُطى نحو المطار، فأخيراً ستقرُّ عيونهم برؤياه بعد كلِّ تلكَ المدة.
استقلُّوا سيارة أجرة، و ما عادت تسعهم هذه الدنيا وما فيها، تتنقل نظراتهم بينهم، تُثرثرُ بغيرِ كلام، تنفضُ عنها غبارَ حسراتِ السنين والمشقةِ والعناء، وأخيراً سيعودُ ظهرُ البيت، من إن استندت إليه سندكَ حتى لو كانت عظامه نخرة.
أسندت ندى رأسها بزحامِ أفكاره إلى نافذة السيارة، لم تُصدق بعد أنه عاد، لم تُصدق تلك الرسالة التي أرسلها بعد انقطاعِ خمسِ سنوات، والتي يخبرهم فيها بعودته وفي جعبته مفاجأة، أخيراً سيرونه بعد خمسةِ عشرَ عاماً يمتهنُ فيهنَّ الغربة. تتذكر يوم كانت تحملُ توأمها في أحشائها، جاءها على عجل كمن وجدَ إبرةً في كومةِ قش، جاءها يحملُ بشرى بتر أحزانه والديون، جاءها بعقد عملٍ في الخارج، لم توافق على ذلك، كان لها رأيٌ آخر: ( ماذا لو اقترضت و أقمتَ مشروعاً هنا، تكون قريباً مني لاسيما أننا ننتظرُ توأماً، فمن سيعينني و الأهل كلٌ له همٌ يكفيه)، لكنه علّق:( يا ندى رواتب الغربة أعلى فما سأجنيه في سنة هنا سأحصل عليه هناك في أقل من شهر، لا تقلقي لن يطول غيابي، ستكونين في قلبي وسأتواصلُ معكم يومياً، علينا أن نضحي قليلاً لنكسبَ كثيراً).
وعدَ بأن يُرسلَ مصروفاً شهرياً لها وللتوأم، وعدَ بأن يزورهم في الإجازات، وعدَ بأن يحمي حبها في قلبه من عواصفِ الغربة، ولهيب الشقراوات، وعدَ بأن يتواصل معهم دورياً، أبرمَ الصفقةَ معها وغادر، فهي الطريقةُ الوحيدة لتحسين معيشتهم، والخروج من ضنكِ الحياةِ إلى زُخرفها، ودّعتْهُ وتركت قلبها لديه، ودّعتْه ووعدته أنها هنا جميلته التي ستصبر وتنتظر.
أجاءها المخاضُ برفقةِ آلام بُعده، وضعت الحبلى وليديها، أسكنتهما روحها، أرسلت له تبشره بهما، انفرجت أساريره، فزادَ حلمه، وكَثُرَ سعيه.
كلُّ أسبوعٍ يتواصل معهم، يفيضُ عليها بوجده واشتياقه، يهذي بعشقها في كل مكالماته، يخبرها كم هو مشتاقٌ لنبيذٍ تخمّر عنوةً على شفاهها، كم هو محتاجٌ أن تضعَ رأسَهُ في حضنها و تهدهدُ له؛ فيزول همه ويتلاشى كدره.
مرّت عشرُ سنواتٍ من السفر، لم يعد في الإجازات كما وعد، نقضَ وعده، وحنثَ قسمه، كبرَ التوأم، وكبرت معهم أسئلتهم عن أبيهم، وما توقف إلحاحهم عليه بالعودة، فقد اكتفوا ماديّاً، وتم تسديد الديون، ورغِدَ العيش، وطابت الحياة، فما حاجته بالسفر إذن، أما شبع من الغربة؟!
افتقدوا وجوده في حياتهم، لا يريدون مالاً، يردون أباً يصنع رجالاً، يريدون من يعلمهم الصلابة، من إن اعتركوا مع آخرين هددهم بقطع المصروف، أو حرمهم من زيارة حديقة خلابة، من يذهب برفقتهم إلى الحلاق، وينهاه عن صيحات هذه الأيام بل يكتفي بقص الشعر وتهذيب أطرافه، من إن دبَّ بينهم الجدال، جاء حكماً كالسيف يفصل بينهم، يسوق حججاً وأدلة، و يأمرُ الخلاف بالزوال، فيتلاشى كأنه ما كان. كانت تلكَ أعظمُ أمانيهم، حنانُ الأب لا يعوَّضُ بتاتاً، فهم يتامى رُغم قلبه النابض بالحياة.
توسلته ندى أيضاً بالعودة، فقد أنهكتها تربية الذكور، يحتاجون أباً صارماً، لا تسطع على تربيتهم وحدها. هي أيضاً تريدُ أن ترتاح في حياتها، أن تهنأ برفقته، أن تطبخ له أطايب الطعام، أن تُريه مهاراتها في شؤون البيت، أن تُشبعه من حديث الجارات و تملُّق بعض الصديقات.
كانت هذه آخرَ محادثةٍ دارت بينهم، من يومها انقطعَ عنهم، غابتْ أخباره برفقة نقوده سنةً كاملة، ذاقوا فيها مُرّ العيش، تذمروا من شُح المصروف، تأففوا من التذلل و التوسل، لم يبقَ قريبٌ ولا صديق إلا واقترضت ندى منه لإكمال مصاريف أبنائها، تنكرت لهم السعادة بعدما أتت بمحض إرادتها تدكُّ بابهم دكاً.
بعدَ تلكَ السنةِ العصيبة، لم تقبل عزةُ ندى رثاء حالها، فخططت لمشروعٍ تقتات منه، وأولَ ما تبادرَ إلى ذهنها، مشروعٌ قد حلمت بتنفيذه وقتَ أنهت دراستها الجامعية من كلية إدارة الأعمال، مشروع شركة تسويق للأعمال النسوية، فعلاً بدأت العمل على قدمٍ وساق. دارت بينَ المعارف تطلبُ قرضاً للبدء، فليسَ لديها أيُّ ضمانٍ لقرضِ البنك، في البداية رفضَ الأصدقاء و الأقارب إقراضها لما اكتظَ على عاتقها من ديونٍ لهم، فجاءتها فكرة جهنمية، ما المانع في أن يضع كلٌ منهم مبلغاً كأنه سهمٌ له في تلك الشركة و سيحظى بحصة من الأرباح، طبعاً عرض لا يُضيِّعه إلا كلُّ أبله، وافقوا على عرضِ النجاة، و في أقل من ستة أشهر أُقيمت الشركة، واستطاعت بذكائها وحدسها الإداريّ و التسويقيّ أن تصنع لها صيتاً بين الشركات، فأصبحت من أهم الشركات التسويقية في البلد في أقل من سنتين من التفاني في العمل.
وَفّقَت بين بيتها وعملها، لم ينقص توأمها شيء، كانوا من متفوقي الطلبة، ألحقتهم بدوراتٍ تعليمية كلٌ حسب هواياته، وأغدقت عليهم حنانها وعوضتهم اهتمامَ الأب.
لم تنسَ يوماً أحمد، بقيت ذكراه ناقوسها الذي يدقُّ بالأمل، بالمضي نحو الحياة، بتحقيق المزيد من النجاحات و الانتصارات، لتلمح بريقَ الفخر يوماً في عينيه، كانت متيقنة من عودته، كانت تدّخرُ ما فاض في قلبها من حبٍ له، كانت تحيكُ ما عاشتهُ في رسائلَ ورقية مطوية تعتنقُ شريطاً أحمر، تكتبُ له حتى يشعر كم عانت لأجل توأمها ولأجل عودته، كم تحملت، وكم صبرت، وكم لفظتها الحياة، وعادت تناضل وتكافح إلى أن انتصرت في النهاية.
كانت مشتاقةٌ جداً لنظرةِ فخرٍ وامتنانٍ منه، كانت تتوقُ لقصيدةِ مدحٍ ينطقُ بها لسانه، كانت بانتظارٍ تقديرٍ لحفظها أمانته، ورعايتها لابنيهما فترة غيابه.
وصلوا المطار، وتلاشى شبحُ الذكريات بمجرد توقف السيارة، ترجلوا من السيارة، وسبقتهم نبضات القلب إلى حيث يستقبلون المسافرين، وقفت تنثُّ عبق حدائقَ الياسمين كلها، وحقول البيلسان، وقفت ودمعُ الفرح يتراقصُ في محجر العين، وقفت ووجنتيها تشتعلانِ حمرةً و اتقاداً للقياه، تمسكُ يدَ علي من جهة ويدَ عدي من الجهة الأخرى، حرارة أيديهم تكاد تحرقهم ولو لم تمسسهم نار، أطلّ من باب المسافرين، بنصفِ ابتسامةٍ خجلى، وعيونٍ تنظرُ نحوهم تارة، وتضيع في غياهب خطاه تارةً أخرى، يُلملم شفتيه لما لاذ بهما من عثرات الكلام، اقتربَ أكثر و في يدهِ هديةٌ شقراء تجرُّ في طرفها طفلٌ يشبهه في الخامسة من العمر تقريباً!
كان الصمت سيد الموقف، لم ينبس أحمد ببنتِ شفة حينما رأى ندى أجملَ مما كانت عليه، حينما أصابته غبطةً من نرجسٍ يديها، حينها حسد الليالي الثكالى على السهر برفقتها، حينها تمرد على الشقراء ونفضَ يدها، سرت قشعريرة شوقٍ في جسده، أرادَ عناقاً طويلاً يكفي لكل تنهيدات الندم، أرادَ كلمة واحدة من فيهها تخمدُ ثورةَ بركانِ المذنب الذي شرع بإلقاء حممه الدفاعية، أرادَ حصناً يقيه نزال الغربة. رأى التوأم وقد أصبحا شابين في الخامسة عشر من العمر، ليتَ كرمَ الطائي لم يطأه ولم تُجبره عروبته على إحضارِ الهدايا.
تسمرت نظراته و ندى، تشبث بيديها، بلعت ريقها، ورمقتهُ بنظرةِ حسرة، سحبت يديها من طوق يديه وغادرت تاركةً ذكراهُ تنسابُ من عقلها دونما أي اعتراض، غادرت ولحقَ بها التوأم، فهي من يعرفونها ولسانُ حالهم يقول "هُدنا إليكِ يا دافئةَ اليدين، يا أرضاً تعبقُ بالرياحين على الدوام، يا وطناً لم يُدنسه احتلال" ، أما هو أبٌ راقته شهوة الغربة فركضَ وراء لذاتها.
عاد لشقرائه يجرُّ خيباته، ويداوي جرحَ الندم، علَّه بالغفران يندمل، ويرتقُ ما ثُقِب في قلبه من أسى جار على نفسه به.
هي جنت مستقبلاً زاهراً لها ولأبنائها في بلدها، وحباً وبِراً من التوأم الجميل، وهو جنى ذكرى ستؤرقه حتى الممات، وقدمٌ تعيسة حائرة بينَ هذا البلدِ، وذاك.