منذ البدايات الأولى لطفولتنا، حين لم تكن الحياة قد عبثت بأحلامنا بعد، كان الآباء يطرحون علينا أسئلتهم الأثيرة في جلسات المساء العائلية:
ما الذي تحبونه؟
ماذا تودّون أن تكونوا حين تكبرون؟
أيُّ باب من أبواب الحياة يغريكم بالدخول؟
كنا نجيب بحماس الطفولة وبراءة الطموح: أريد أن أكون ضابطاً، طبيباً، مهندساً، أو محامياً...
تتقاطع أصواتنا، وتعلو أمنياتنا، إلا عندما يُذكر التدريس. فجأة، يخفت الحماس، ويسود الصمت، كأن هذه المهنة لا تستحق حتى أن تُدرج ضمن الأحلام.
لم يكن ذلك عبثًا، بل انعكاسًا لصورة مجتمعية مشوّهة، زرعتها السياسات وأروقة السلطة التي لطالما همّشت التعليم وأهملت المعلّم، حتى صار راتبه لا يسد رمق يوم، ولا يكفي لحذاء يليق بكرامته. نسينا – كما نسيت الدولة – أن أعظم الوظائف تبدأ من هناك، من حيث يقف المعلّم. فالطبيب الذي ينقذ، والمهندس الذي يبني، وحتى القاضي الذي يحكم… كلهم مرّوا من يد معلّم ذات يوم.
مع مرور الوقت، تراكم الإهمال، وتحوّلت المدرسة إلى مكان يعجّ بالضجيج لا بالعلم، وصار المعلّم يؤدي واجبه بروحٍ منكسرة، بعدما فقد الاحترام في عيون كثيرين. تحوّلت حصة الدرس إلى عبء ثقيل، لا يحمله المعلم وحده، بل الوطن بأكمله.
ورغم ذلك، لم تُبادر الحكومات إلى الإنقاذ، بل واصلت مسيرتها العمياء، تغضّ الطرف عن معاناة المعلم، وتمنحه أجراً لا يليق برسالته، ولا يعادل جهده. وما زالت وزارة التربية تتأرجح في دائرة العجز، لا رؤية واضحة، ولا استراتيجية مستدامة، كأن التعليم ترفٌ لا أولوية له في بلاد تُخربها الحروب وتُنخرها الجهالة.
لكننا اليوم، لا نكتب لنرثي، بل لنعيد ما يمكن إصلاحه، نرفع الصوت باسم كل من آمن أن إصلاح المجتمعات يبدأ من المعلم، وينهض بالمدرسة، لا من قصور الساسة أو جدران المؤتمرات.
نحن هنا لنقول: إن المعلّم ليس خيالاً باهتاً في ذيل قوائم الوظائف، بل هو الوهج الأول الذي تضاء به كل مهنة لاحقة. وإن نهضة الأمم لا تبدأ من الذهب ولا من النفط، بل من الطباشير الأبيض حين يخطّ على السبورة حلمًا في رأس طفلٍ صغير.
علينا أن نعيد لهذه المهنة هيبتها، أن نوقظ ضمير الدولة نحوها، وأن نربّي أبناءنا على أن احترام المعلم لا يقل قداسة عن احترام الوالدين. فبلا تعليم، لا وطن، وبلا معلمين، لا بقاء.