مساءٌ يغمر الأفق بنفَس الخريف المنتظَر، ذاك الذي يأتينا كل عام حاملاً رائحة الأرض المبلولة وأصداء الضفادع تغني في السواقي والبرك الصغيرة، فيما يتصاعد دخان شيّ الذرة الشامية على الجمر، لينتشر عبيره في الأزقة الطينية وبين البيوت القشية. لا تسمع سوى طقطقة "دليل النجاض" وهو ينقر على أبواب البيوت، وصمت الأطفال وقد خفتت أصوات لعبهم المعتادة، كأنّهم ينصتون لجمال اللحظة.
الخريف هنا ليس مجرّد فصل، بل طقس من الطمأنينة... جلساتٌ مسائية على الحُصر، تُشعل فيها الأمهات جمر الطرد، وتنفثن الدخان لدرء البعوض، بينما يصطف الشباب في حلقة دائرية حول الجدة أو الأم، يفتحون معها باب "الونسة"، وتبدأ الحكايات، تلك التي تعرف شعبيًا بـ"الأحاجي".
تسرد لنا الحُبوبة سِيَر الأجداد، حكايات الشجاعة والترحال، كيف كان الأب والعم يقودان الماشية من مرعى إلى آخر، يقرؤون علامات الغيم وملامح العشب ويختارون للقطيع مواضع الأمان. تحكي عن أيام الزواج في ذلك الزمن، يوم كانت الخُطبة تُدار بالعادات، وكانت الكلمة وعدًا، والنظرة التزامًا.
وبعد صلاة العشاء، يمتد السمر إلى "الديوان"، حيث تُعاد الحكايات ويُستعاد الزمن، وتترتب المجالس كما ترتب القلوب حين يجمعها دفء الانتماء.
الريف السوداني، رغم تنوّع ثقافاته ولهجاته، يحمل جوهرًا واحدًا؛ إنسان مشبع بالكرم والبساطة، محبٌ للوحدة لا الفرقة، يؤمن أن السودان، برغم اتساعه وتعدده، وطنٌ واحد تتشابك فيه الحكايات كما تتشابك الأيادي في موسم الحصاد.