كنت أتغير بصمت، تتبدّل تصرفاتي، تتلاشى ملامحي القديمة، وأفعالي تفقد ملامحها الأولى. لم أعد أنا. لم أعد ذلك الشخص الذي كان يحمل قلبًا يضجّ بالحياة. كنت أغادرني، شيئًا فشيئًا، دون أن أودّعني.
لماذا نحن هنا؟ سؤال ساذج ظاهريًا، عميقٌ في جوهره. نحن هنا لأننا أبناء هذه المدينة، المدينة التي لم تولد من إسمنت وحديد، بل من قصص الجدّات، من نسيج التآزر والطيبة والبساطة… مدينة نعرف دروبها كما نعرف وجوهنا، لم نفكر يومًا في مغادرتها، فهي الحنين وهي الحصن، وإن اشتدّت بها العواصف.
لكن في ذلك اليوم، رأيتُ ما لا يُرى.
صحتُ من نافذة غرفتي، كان الصوت يخرج من حنجرتي كأنه صوت غيري، رأيت رجلاً يطارد طفلة صغيرة تحمل وردة وكتابًا. لم أستطع أن أميز بين الحلم واليقظة. حاولت أن أصرخ مجددًا، لكن الصوت خذلني… ثم وجدت نفسي تحت النافذة، لا أدري كيف… فقط، كنت هناك.
قفزتُ. نعم، قفزت من علوٍ شاهق، كأنني أرمي بنفسي في حضن الحقيقة.
سألت الأرض:
أين أخذتم الطفلة؟
سألت الهواء والفراغ والوقت، ولم يجبني أحد.
كل شيء تحوّل إلى ظلام، ليس ظلام الليل، بل ظلامًا يسكن العيون والذاكرة.
كنت أتحسّس ذاتي، وأتساءل: هل ما زلت إنسانًا؟
وفجأة… صوتٌ باردٌ كالموت هزّني من الداخل:
"لا يوجد هنا شيء… ارجع!"
انفجر رأسي. تكسّرت الفكرة في جمجمتي كزجاج هش.
ما هذا الذي يحدث لي؟ من أنا؟ وما الذي جرى؟
صمتُّ، كمن يستعد لمواجهة زلزال داخلي.
أدركتُ فجأة أنني تآكلت. أنني فقدت الدفء. أنني لم أعد أحسّ.
عدت إلى الغرفة كالهارب من القيامة.
شربت كوب ماء، تمنيت لو لم أفعل.
انكمش جسدي كورقة محترقة.
الألم سكن كل شيء…
يديّ تجمدتا، قدماي خذلتاني، لا حركة، لا مقاومة.
قلت في داخلي:
يا رب، أين قوتي؟ أين هذا الجسد الذي كنت أملكه؟
كنت أحاول أن أتذكّر آخر لحظة شعرت فيها بالحياة… فلم أجدها.
القفزة، تلك القفزة التي أقدمتُ عليها بجنون، جعلتني غريبًا عني.
كأنني خرجت من جلدي، ووقفت أتأملني من بعيد…
هي لحظة بين الحياة والموت، لا يمكن تفسيرها… فقط تُعاش.
حاولت أن أنام، لعل النوم يُعيد ترتيب الفوضى في رأسي…
لكن النوم رفضني.
اجتمعت عليّ السماء والأرض، وكأنهما ضاقتا بوجودي.
ثم… لا شيء.
بياضٌ مطلق، وصمت يشبه النهاية.
استيقظتُ فجأة… على سرير غريب، أنابيب مغروسة في جسدي،
جبيرة على الساق، شاش يلفّ ظهري…
الغيبوبة كانت بيتي المؤقت، وها أنا أخرج منه لأجدها – وحدها – تقف عند رأسي.
لم تقل شيئًا. لم تبكِ.
كانت تهمس بهدوء لم أفهمه، كأنها تنشد لي الخلاص:
"نم… فالعاصفة مرّت، وأنت بقيت."