نحن لسنا أبناء صدفةٍ حضرية، ولا نُشبه ذلك التحوّل الذي اجتاح المدن وأفرغها من معناها. نحن أبناء قرى تنبض بروح الأجداد، تنهض كل فجرٍ على صوت الديكة، وتبيت على وهج السمر تحت ضوء القمر. هنا، لا تزال العادات تقرأ من كتاب الجدات، ويُحفظ الموروث في صدور الشيوخ، كأنّه قرآنٌ غير مكتوب.
في الريف، يظل الإنسان على سجيّته، لم يتبدل وجهه، ولم تتبدل ملامحه بثقافات مستوردة لا تشبه تربته. أمّا المدن، فقد اختلط فيها كل شيء؛ ضاعت الملامح، وتداخلت الأصوات، حتى صار بعضهم كأنهم نسوا من أين جاؤوا. يتباهون بالموضة، ويرددون كلماتٍ لا يعرفون أصلها، ويرتدون وجوهاً ليست لهم.
نحن الذين ظللنا نواجه رياح التغيير وحدنا، نحمل على أكتافنا أثقال الهوية، ونحرس بوابات الوعي من أن تُغلق في وجه الحقيقة. وكم حاولوا أن يخدعونا، يبيعون لنا شعارات الديمقراطية في أقنعةٍ باردة، ويقدّمون لنا الفوضى في أطباق براقة. لكننا كنا نقرأ ما بين السطور، ونفهم ما وراء الألفاظ، فلم ننخدع.
قبل ثلاثة أيام، كنت جالسًا برفقة صديقي على شاطئ النيل، حين مرّت أمامنا مجموعة من الفتيات والشباب، يبدون كأنهم خارجون من مشهدٍ تمثيلي. سارت فتاة إلى جوار شاب، ثم بادرت بتقبيله أمام الجميع، دون خجل أو مواربة. ظنناهم أسرة واحدة، لكنهم ما لبثوا أن تفرّقوا إلى ثنائيات كأنهم لا يعرفون بعضهم.
تبادلنا نظرات الاستغراب، ثم نهضنا إليهم ناصحين، فما كان من الفتاة إلا أن أطلقت صوتًا شقّ سكون المكان وقالت:
"من أنتم حتى تمارسوا وصايتكم على الآخرين؟! يا رجعيين!"
صدمتنا لغتها، وشتائمها التي تلاحقنا كسهام. حاولنا تهدئتها، لكن الغضب كان يملأ فضاء الموقف.
قال أحدنا:
"هذه البلاد لا تحتمل مزيدًا من الفوضى، ليست ساحة لهامشيين لا يعرفون المسؤولية."
فردّت ببرودٍ واستعلاء:
"من لا يؤمن بمبادئ سيداو، لا يستحق حتى مخاطبتنا."
عندها ساد الصمت، كأن صوتها قد كسّر شيئًا في دواخلنا. لم نعد نعرف هل نحن نعيش زمنًا لا يشبهنا، أم أن الزمن هو الذي قرر ألا يعرفنا.