المغامرة لا توصلنا دائمًا إلى حيث نريد، لكنها تفتح لنا دروبًا جديدة في التفكير والتدبير، وتضع أمامنا إشارات إنذار تنبّهنا للعقبات والتحديات التي قد تعترض طريقنا في قادم الأيام، إن نحن أقدمنا على فعلٍ مشابه أو خضنا تجربة مماثلة. فثمة مغامرات تُمنح لنا كدروس مجانية، نضيفها إلى سِجال سيرتنا وتاريخنا الشخصي، دون أن نُدرك قيمتها إلا لاحقًا.
نسمع قصصًا وحكايات، مُمهورة بدماء من سقطوا شهداء على الأرض؛ بعضهم من أجل الحرية، وبعضهم الآخر ابتغاء مصالح خاصة بهم، وآخرون مضوا بحثًا عن عالم الإنسانية المنشود. وفي هذا السياق، يُجمع الجميع ــ دون مواربة ــ على أن بقاء المؤسسة العسكرية في قلب المعادلة السياسية أمرٌ لا يُطاق. الكفرُ الوحيد هنا هو إقحام العسكر في العملية السياسية، وقد بات ذلك أمرًا غير مقبولٍ لدى من يطلبون دولة مدنية عادلة.
وبرغم ما نراه من توافق على ضرورة هذا الخروج، إلا أننا نرى في المقابل أحقيةً موضوعية لفصل الأدوار. فالأحزاب المدنية وُجدت أصلًا لممارسة العمل السياسي، وتحقيق مطالب الجماهير، وصياغتها في قوالب فكرية وسياسية واقتصادية تعبّر عن هذا التنوع الاجتماعي. أما العسكر، فمهامهم واضحة ومعروفة؛ وهم يعرفونها جيدًا لحظة أدائهم قسم الطاعة والولاء للوطن. فالدستور والحدود الجغرافية ليستا ساحة للمساومة، بل أمانة في عنق الجندي الغيور على بلده. لهذا السبب أُنشئت المؤسسة العسكرية، وهذا هو سبب وجودها الحقيقي.
لكن ما نشهده اليوم في مجتمعنا السوداني، وبمتابعة حسّية دقيقة، هو تداخل مربك وخطير في الأدوار: العسكري يريد أن يصبح سياسيًا، والسياسي يطمح أن يكون عسكريًا. أصبح هذا التبادل المشوه علاقةً هجينةً تُبنى على المصالح المشتركة، ويؤسفنا القول إن المصلحة الوحيدة التي تربطهما هي "السلطة"، لا "الوطن".
فإن لم تصل إلى الحكم من فوهة البندقية، تحوّلتَ إلى سياسي متلوّن، تتخفّى خلف سلاحك. وإن لم تنجح عبر صناديق الانتخابات، أمسكت بالبندقية وادعيت أنك تمثل حركة سياسية عسكرية. وهكذا تتكرّر الدائرة، ويشتد تعقيد المشهد حتى أصبح كمن ينتظر معجزة تُنقذنا من سلطة العسكر، ومن فشل المدنيين، ومن تفاهةٍ مستحكمة تمنع كليهما من التنازل عن كراسي الحكم.
المأساة أن كليهما يُحاول إدارة الدولة تحت عباءة السيادة، لكن لا أحد منهما يحتكم للعدالة أو يُقيم وزنًا للقانون. الأحزاب السياسية، هي المعنية بإدارة شؤون البلاد وفق ما تُفرزه صناديق الاقتراع، أما شرف البندقية فيجب أن يُحصر في حماية الوطن، لا الطمع في مقاعده.
وهكذا، وسط هذا الانقسام، يتجدد الصراع، ويستمر وطننا في التمزق، ويظل شعبنا هو الضحية الوحيدة في ساحة صراع عبثي لا يُراعي وجعه.
ولنكن صادقين، ربما لم يكن لدينا وطنٌ بالمعنى الكامل لنُدافع عنه. ففي كل مرة نظن أننا نقترب من التئام الجرح، نصحو على تشظٍّ جديد، وتتقاسم الأيادي الطامعة أطراف البلاد. عناصر الوطن تسعى جاهدةً لجمع ما تبقى، لكن ملامح الوحدة الطوعية لم تكتمل بعد. بل إنّها، وللأسف، أصبحت شعارات خاوية، تُسجَّل على دفاتر الأخبار، وتُعلَّق كأوسمة على صدور الأحزاب السياسية التي تصف نفسها بالتقدمية، بينما هي لا تزال تُعيد إنتاج الفشل بلغة جديدة.