صديقي العزيز،
لم يعد الحال كما كان، فالسنوات الأخيرة حملت إلينا طوفانًا من الأزمات، وعلى رأسها اشتداد التأزم السياسي الذي ألقى بظلاله الثقيلة على الاقتصاد الوطني. بالكاد نستطيع أن نُطلق على ما تبقى اسم "منظومة اقتصادية"، إذ لا خطط علمية، ولا نظريات مدروسة، ولا حتى حدٌّ أدنى من التماسك المؤسسي.
رأينا بأسى تدهور سوق الصادرات، وتقلُّص الصناعات المحلية، واندثار عدد من المصانع والشركات التي كانت تشكّل عصب الاقتصاد. قد يُعزى ذلك إلى سياسات عشوائية كرفع الرسوم الجمركية والعوائد بلا دراسات موضوعية، وكان طبيعيًا أن يُترجم ذلك إلى اختناق في سوق العمل، وتفاقم البطالة، وتردّي أحوال الناس.
الدولة – أو ما تبقى منها – عجزت عن صياغة سياسات اقتصادية تقي الجنيه السوداني من الانهيار، فواصل الأخير سقوطه المريع أمام العملات الأجنبية، تمامًا كما يحدث في عهود الحكم العسكري حيث تُكمّم الأفواه وتُقبر الرؤى الاقتصادية المستنيرة.
يا صديقي، نحن – برغم تواضع أدوارنا – أفضل حالاً من أولئك الذين يُحسبون على أنهم "منظّرو الاقتصاد الوطني" أو "كتبة الدساتير". دعنا نغرق في عالمنا البسيط، عالم اللامبالاة الطوعية، نحتسي كأسًا من عصير البلح الطبيعي ونتسامر بما تبقى لنا من اللحظات، نتحايل بها على الألم ولا نُسلم أرواحنا كليًا لليأس.
لكنني أسألك: لماذا لم نكن نحن من ينتشل هذا الاقتصاد؟
ألم تكن أنت من قدّم نقدًا علميًا لنظريات الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي، ونُشرت رسالتك البحثية في عدة قنوات، وتلقّاها الباحثون والأكاديميون بقبول وتقدير؟ ألم يُقَل إنّ تلك الورقة – لو طُبّقت توصياتها – لكان لها أثر في إنقاذ الجنيه والاقتصاد السوداني؟
وها نحن اليوم نقبل بحكومة أمر واقع، نعلم فشلها، ونصمت. وهل هناك وصمة أشدّ من هذا؟ أن نعلم ونصمت؟ أن نرى الخراب بأعيننا ونشيح وجوهنا عنه؟ لكنني أعود وأقول: ربما السكون أرحم. ربما العزلة نجاة.
أنا ابن القرى البعيدة، حملتني أمي عبر صحارى يابسة، وربّتني في كهوف الجبال اللافحة. أكلنا ما تأكله الأسود، وشربنا من برك خضّبتها أقدام الماشية. لذا تعلّمت أن السكون طمأنينة، وأن السلام الداخلي لا يُشرى.
صدقني، لا أحتمل أن أُقحم نفسي في مستنقع الفساد، ولن أسمح لك أنت أيضًا بأن تغرق فيه. فغادر الآن إن شئت، نظّم أمورك، وخذ وقتك لتجلس مع ذاتك، تفكّر، تتأمّل، تُراجع، فإن لم تستطع البقاء في عالمنا هذا، فلتغادر بصمت. ولتعد فقط حين يكون الوقت مناسبًا.
وبيننا – كما تعلّمنا – محطات لا تنمحي، وذكريات لا تُمحى، ووجود لا يُغتال بسهولة من الذاكرة.
دعني أبوح لك، يا رفيقي، بما لم أقله يومًا:
ليست البلاد وحدها من تتصدّع، نحن أيضًا نتشقّق من الداخل، كلما أمعنّا في الصمت، وفي الادّعاء أننا بخير. لم نعد نبحث عن النجاة الجماعية، بل نحلم بنجاة فردية نُهرّب فيها أرواحنا من هذا الخراب الممتد، دون أن نخسر القليل المتبقي من إنسانيتنا.
أتعرف ما يؤلمني؟
أننا نحيا في وطن لم يَعُد يراك إلا حين تُطالب بحقّك، ولم يَعُد يسمعك إلا حين تصرخ ألماً. وطنٌ يثقل كاهلك بالقهر، ثم يلومك على الانحناء.
وفي خضم هذا التيه، بتنا نحسد الموتى على استقرارهم، ونُكابر في الحزن كمن يتقن الابتسام في جنازته.
لكنني ما زلت أؤمن – في أعماقي – أن الرماد يخبّئ جمرة.
وربما، حين نلتقي بعد الغياب، سنكتشف أننا لم نكن مغيبين، بل كنّا نحمي أرواحنا إلى حين.