عامٌ مضى من عمري، لا يشبه الأعوام التي مضت قبله. عامٌ طويلٌ كثيف التفاصيل، محمّلٌ بأسئلة موجعة، وإجابات أكثر وجعًا. كأنّ الزمن فيه لا يُقاس بالساعات، بل بعدد الحنينات، وبكمّ المسافات التي تفصلني عن جذوري الأولى.
غادرنا الوطن، لا هربًا من الخوف، بل رفضًا للذل، وسعيًا وراء لحظة كرامة نُثبت فيها أننا بشر نستحق الحياة. غادرناه ولم نغادر أحلامنا، ولا القيم التي ربّتنا عليها شوارع الثورة، ونداءات المعتصمين تحت الشمس، وأمهات الشهداء اللواتي خضن الحرب بالكبرياء وحده. كل تلك اللحظات كانت تطرق أبواب ذاكرتي مع كل نسمة باردة تهبّ في غربةٍ لا تُشبه الدفء الذي كنا نعرفه في حيّنا القديم.
جئنا إلى بلادٍ لا يعرفنا فيها أحد، نحمل على ظهورنا حقيبة صغيرة، وحقيبة أخرى أكبر بكثير على قلوبنا، مليئة بالخذلان، وبسؤال واحد يطاردنا كل مساء: "هل كان لا بدّ أن نغادر لنبحث عن إنسانيتنا؟"
كنا نبحث عن كرامة نعيش بها، عن وطن يُنصف أبناءه، عن دولة تعترف بمواطنها قبل أن تطالبه بشهادة ميلاد. لكن ماذا وجدنا؟ وجدنا أن من يملك البندقية يملك الحق، ومن يُجيد الانحناء هو وحده من يبقى في المشهد. ووجدنا أن كل ما تعلمناه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية أصبح مادةً للتهكّم، تُرمى في المزابل، ويُسخر منها في المجالس.
العسكر يحكمون كأنهم خُلقوا للسلطة، ويظنّون أن الوطن مزرعة توارثوها، ومن يصفق لهم يُمنح ميكروفونًا ليُحدّث الناس عن "الهيبة"، كأنه حارب في جنوب أفريقيا أو رافق مانديلا في سجنه. نعم، في بلادنا، تُقاس الوطنية بعدد الرصاصات، لا بعدد المبادئ.
لكننا لم نستسلم. قاومنا. واجهنا. ناضلنا حتى عندما سقطت الرايات، ورفعنا صوتنا حتى حين خذلتنا الميكروفونات. لم تكن معركتنا مع العسكر فقط، بل مع النخب السياسية التي لم تعرف كيف تحمي الثورة، ولم تملك شجاعة التنازل من أجل الوطن. أحزاب تبحث عن رزق اليوم باليوم، وعقولٌ ما زالت تعيش في دفاتر الستينيات، لم تطوّر أدواتها، ولم تعِ أن العالم تغيّر.
نحن لم نركع، ولم نكسر القلم. آمنّا بالتغيير من الداخل، فصنعنا ما استطعنا من شرارات. وأيقنّا أن كل خطوة نخطوها خارج الوطن، هي خطوة في سبيله، طالما بقي في القلب، وطالما بقي الحنين حيًّا لا يموت.
في هذه البلاد البعيدة، حيث النظام يُحترم، والوقت لا يُهدر، وجدتني أعيد ترتيب ذاتي. عملي بسيط، لكنه يمنحني ما يكفي من السكينة لأن أُصغي إلى وطني من خلف البحار. أستيقظ كل صباح على صوت مصطفى سيد أحمد، وكأنّ الوطن يهمس لي عبر سماعات الهاتف: "اصحى يا عبدالرحيم، الدنيا ما زالت بخير، وأهلك لسه منتظرينك."
أنام في غرفة هادئة، لا يوقظني فيها سوى ضوء الفجر، ولا يؤرقني سوى الأخبار القادمة من السودان. هناك حيث تموت الأحلام، وتُبعث الإرادة من تحت الركام، هناك حيث لا تزال الثورة تمشي حافية القدمين، على الطرقات الموحلة، تبحث عن بابٍ يُفتح.
نحن لم نغادر الوطن… الوطن هو الذي غادر نفسه. لكننا سنعود، حين يكون للكرامة عنوان، وللدولة وجه يشبه وجوه الشهداء.
رسالة في بريد الزمن
إلى من سيقرأ كلماتي بعد سنين،
إلى من وُلدوا في وطنٍ كان جريحًا ذات يومٍ لكنه تعافى بدماء أبنائه،
إلى كل من يظن أن الغربة وطنٌ بديل،
وأنّ البندقية تكتب التاريخ…
اعلموا أن الأوطان لا تُبنى بالرصاص، بل تُبنى بالعدل.
وأنّ كل من سكتَ عن الظلم، منح الظالم حياةً إضافية.
وأنّ الغربة لا تُشبه الوطن، حتى وإن زُيّنت بالحرية والنظام.
في قلوبنا وطن لم نره بعد، لكنه ممكن،
وطنٌ نحلم أن نراه يومًا، فنقول لأطفالنا بثقة:
"هذا هو السودان الذي يستحقكم."