في منتصف مايو، خرجنا في رحلة عمل طويلة امتدت ثلاثين يومًا، تنوّعت بين فترات تدريب، وأيام عمل ميداني كان هو الغرض الأساسي من السفر، تخللتها لحظات قصيرة من الترفيه، سمحت لنا باستكشاف ثقافة المنطقة وجمال طبيعتها، التي بدت وكأنها لوحة فنية أبدعتها يد خفية، تسحر الناظر وتُنسيه تعب الطريق.
في الطائرة، جلستُ إلى جوار فتاة بدت من النظرة الأولى مختلفة. شعرها الطويل ينسدل بانسياب، ملامحها هادئة، وعيناها فيهما حديثٌ لم يُقال. كانت تبدو في العشرينات من عمرها. بادرتها بتحية مهذبة، فردّت بلطف. ثم انساب الحديث بيننا كجدول صغير يتلمس طريقه بين الصخور. كانت أنيقة في حديثها، عملية في كلماتها، دقيقة جدًا في الزمن.
لفتني أنها كثيرًا ما تنظر إلى ساعتها، فسألتها ممازحًا:
"تتابعين الوقت بدقة... أهناك موعد لا يُنتظر؟"
ابتسمت بخجل، وقالت:
"نعم، خصصت لك دقائق معدودة من وقتي لأتعرف على مجالات اهتمامك، وسبب زيارتك لبلادنا."
فوجئت بإجابتها، وازددت إعجابًا بترتيبها وحديثها الواضح واحترامها للآخر. كان حديثها يحمل طيفًا من الثقافة، ويدل على وعي وانضباط. وكانت تقرأ مجلة علمية بين يديها، مما زاد يقيني بأنها من أولئك الأشخاص الذين لا يمرون في حياتك مرور الكرام.
شعرت أن الوقت معها يمر سريعًا. وعندما اقتربنا من الهبوط، جمعت شجاعتي وقلت:
"هل بالإمكان أن نلتقي مجددًا؟"
ردّت بابتسامة هادئة:
"لا أمانع، يمكننا أن نلتقي في قاعة المكتب المركزي. سأرسل لك الموقع على هاتفك."
وفعلًا، تم اللقاء. جلسنا جلسة امتزج فيها دفء الحديث برقي المكان. سألتني:
"هل أعجبتك المدينة؟"
قلت:
"لا أستطيع أن أحكم عليها قبل انتهاء الرحلة."
فأجابت:
"إذًا، دعنا نلتقي هنا في نفس الموعد. أنا أعمل على مناقشة رسالة دكتوراه في العلوم التطبيقية، وهذا المكان المفضل لديّ للكتابة. لا تقلق، خصصت لك وقتًا كافيًا، فجزء من بحثي يتعلّق بدراسة أحوال المجتمعات المتنوعة، وقد تفيدني حواراتي معك. وأظن أن بيننا سمة صداقة تنمو... وربما تتحول إلى علاقة وطيدة، إن أردت ذلك. في الحقيقة، إن لم تطلب أنت اللقاء، كنت سأطلبه أنا. ليس في الأمر حرج."
ثم قالت قبل أن تهمّ بالذهاب:
"الآن سأتركك، على أمل أن نلتقي مجددًا في ذات الزمان والمكان."
عدت إلى استراحتي، وفي رأسي أفكار كثيرة. ماذا يمكن أن يُثمر عن هذا اللقاء؟ كيف نبتت هذه العلاقة من لحظة عابرة، وربما تتفتح كوردة في فصل لم أخطط له؟ كانت مختلفة... جريئة، صريحة، كلماتها منتقاة بعناية، صادقة، ومخلصة في احترامها للوقت.
حتى في علاقتنا، ربطت اللقاء بالعلم، وكأنها تؤمن أن كل شيء في الحياة يجب أن يكون ذا معنى، حتى الحب.
وفي الأيام التالية، توطدت علاقتنا. وكنت سعيدًا أن أقدم لها ما قد يساعد في بحثها، خاصة أن حديثنا أصبح أكثر عمقًا وتبادلًا للفهم.
مع اقتراب نهاية الرحلة، قلت لها:
"رحلتنا المهنية انتهت، وسنغادر غدًا إلى بلادنا. سألتِني سابقًا عن رأيي في بلدكم... والآن أقول لك: إنها بلد جميلة، بلد العلم والحضارة، بلد القانون والحريات. الكل هنا يشعر بأنه متساوٍ، وهذا جوهر الاستقرار. أما الأماكن، فتصميمها كأنها مدن أحلام صُممت بدقة وجمال."
لم تتركني أكمل، قاطعتني قائلة:
"لا، أنت ستعود، ولكن على نفقتي الخاصة، مطلع الشهر القادم، لحضور مناقشة رسالتي. وجودك بجانبي سيكون شرفًا كبيرًا لي. ثم إنني لا أملك عائلة... فقدت الجميع في زلزال دمر منزلنا ولم ينجُ أحد."
كلماتها اخترقت قلبي. وعدتها بأن أكون معها. وفعلًا، حالفني الحظ، وتمكنت من العودة في الموعد. حضرت حفل المناقشة، وشاركتها فرحتها. وبعد انتهاء الكرنفال، ذهبنا إلى مكان لقائنا المعتاد، وتحدثنا طويلاً.
ثم، بخطوات واثقة، فتحتُ الموضوع:
"هل ترغبين بأن نكمل هذا الطريق معًا، إلى الأبد؟"
وافقت.
وبعد ستة أشهر، عُقد قراننا، وعدنا سويًا إلى وطني.
كانت الرحلة في ظاهرها مهنية... لكنها كانت موعدًا مع القدر، جمع بين العلم والحب.