منذ نُعومة أظافرنا، لم نكن نعرف عن الحياة سوى لهونا الطفولي، نلعب بكُرة من القماش(كُرة الشُراب) ونجري خلف المخازن بعد نهاية اليوم الدراسي. وبين تلك اللحظات، كان يرنُّ في آذاننا صوت نشرة الأخبار في الراديو، حاملاً عبارة لا تمحى من ذاكرتنا: "السودان سلة غذاء العالم".
كنا نحفظها ونرددها بفخر، ونظن أن بلادنا على مشارف أن تصبح رقماً في السوق العالمي. وكانت المسيرات والمواكب تُسيَّر تأييداً لكل من يأتي إلى الحكم، سواء بالديمقراطية أو عبر دبابة انقلاب. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن هذه العبارة، رغم بريقها، لم تكن سوى شعار يصلح لحملة انتخابية، لا لواقع نعيشه.
قالوا إن السودان سلة غذاء العالم لأنه يمتلك كنوزاً من الثروات: أراضٍ زراعية من أخصب ما يكون، وثروة حيوانية تُقدّر بأكثر من 100 مليون رأس، ومياه نهر النيل، واحتياطي بترول وذهب. لكن ما بين هذا القول وواقعنا المُعاش، بونٌ شاسع.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، لم يَشهد السودان استقرارًا اقتصاديًا حقيقيًا، باستثناء فترات قصيرة أعقبت تغييرات سياسية. وغالباً ما كان الاستقرار الظاهري مرتبطاً بمحاولات الأنظمة الجديدة ترميم ما أفسده من سبقهم، لكن دون حلول جذرية.
مع سقوط نظام البشير، الذي خلّف وراءه تركة اقتصادية مُنهكة، تحطّمت الصورة الوردية تماماً. أصبحت عبارة "سلة غذاء العالم" فارغة من المعنى، لا تجد لها صدى في أرض الواقع. خلال حكم الجبهة الإسلامية، تغيّرت نظرة الدولة للموارد: بدلًا من تطويرها، عملت على خصخصتها، كما حدث مع مشروع الجزيرة، الذي كان رمزًا لذلك الحلم الزراعي الكبير.
مشروع الجزيرة، الذي بمساحته التي تفوق 2.2 مليون فدان، كان أحد أبرز أسباب وصف السودان بأنه "سلة غذاء العالم". لكن بفعل الإهمال والخصخصة وسوء الإدارة، بدأ المشروع في الانهيار، وصار المزارع عاجزًا عن سقي أرضه، رغم دفعه رسومًا ثقيلة لصيانة الترع التي لا تُنظَّف.
أما اليوم، فالسودان يمر بمنعطف اقتصادي حاد: الجنيه السوداني انهار تماماً، وتراجع أمام الدولار بنسبة تجاوزت 125%، حسب تقرير البنك الدولي لعام 2024، الذي أشار أيضًا إلى أن معدل التضخم بلغ 230% في 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 180% في 2024. لم يعد للجنيه قيمة تُذكر في السوق، وكل يوم يحمل ارتفاعاً جديداً في الأسعار.
كيف يُعقل أن بلدًا به أكثر من 6 مصانع سكر عاملة، يصل سعر كيلو السكر فيه إلى 3000 جنيه سوداني؟ كيف يُفسر أن رطل زيت الفول بلغ 5000 جنيه، وجوال عيش ود أحمد تجاوز 85 ألف جنيه؟!
التقارير تقول إن أكثر من 98% من الإنفاق الحكومي يذهب للمؤسسة العسكرية، في حين تعاني المدارس من التهالك، والطرقات من الحفر، والمستشفيات من الشلل، والمزارع من العطش. المفارقة أن المواطن ظلّ ينتظر من كل نظام يأتي أن يحل مشكلته الاقتصادية، لكن كل ما حصل عليه هو تغيير في الأشخاص لا في السياسات.
حتى اليوم، لم تُطبَّق أي خطة اقتصادية متكاملة، لا وفق النظرية الرأسمالية ولا الاشتراكية. كل ما حدث هو مجرد مسكنات، لا تعالج أصل الداء. يتم تغيير وزراء المالية كما تُغير الثياب، دون أن يسأل أحدهم: لماذا فشلنا؟
اليوم، وبحسب تقارير البنك الدولي:
- أكثر من 17.7 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
- 4.9 مليون شخص على شفا المجاعة.
- 8.6 مليون شخص اضطروا للنزوح داخليًا بسبب الحرب، ما يجعل السودان أكبر أزمة نزوح في العالم الآن.
كل هذا يحدث، ومشروع الجزيرة على وشك الانهيار الكامل، بسبب قطع المياه وتهرب وزارة المالية من دعم الشركات المنفذة لأعمال الصيانة. المزارعون دفعوا ما عليهم، لكن الدولة اختارت أن تدير ظهرها.
إذا لم يُتدارك هذا الوضع فورًا، فقد لا يكون هناك مشروع جزيرة تنقذه الدولة لاحقًا. بل قد لا يبقى ما يُنقذ أصلًا.