بينما تتعمق جراح الحرب في السودان، التي أنهكت البلاد لأكثر من عامين، جاء بيان من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 22 مايو 2025، ليزيد المشهد تعقيدًا، بإعلانه فرض عقوبات اقتصادية جديدة على الحكومة "فرض تدابير على السودان لاستخدامه الأسلحة الكيميائية".
وقد نُشر البيان عبر الموقع الرسمي للحكومة الأمريكية، متهمًا الحكومة السودانية باستخدام أسلحة كيميائية محرّمة دوليًا خلال مواجهاتها مع مليشيا الدعم السريع عام 2024.
ووفقًا للبيان، فإن العقوبات تشمل فرض قيود على الصادرات إلى السودان، ومنع الحكومة السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الأمريكية، استنادًا إلى قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وبناءً على ما وصفته واشنطن بأدلة تؤكد ارتكاب هذه الانتهاكات.
هذا القرار، وإن بدا مفاجئًا للبعض، إلا أنه لم يكن خارج التوقعات؛ فقد بدأت التسريبات بشأنه منذ أبريل 2024، حين أثير لأول مرة داخل أروقة صنع القرار الأمريكي. وقد خضع حينها للنقاش قبل أن تتخذه الإدارة الأمريكية رسميًا. التوقيت الراهن، الذي يشهد تصاعدًا في الأزمة السياسية والعسكرية داخل السودان، يعطي لهذا القرار أبعادًا أكبر، ويؤكد أن السودان بات على أعتاب مرحلة جديدة من العزلة الدولية والتصعيد السياسي.
بهذا القرار، تكون الحكومة السودانية قد دخلت رسميًا في مواجهة على جبهتين: داخلية عبر الحرب المستمرة مع مليشيا الدعم السريع، وخارجية عبر صراع دبلوماسي مع واحدة من أقوى دول العالم. وهذه المؤشرات تنذر بأن السودان قد يواجه مستقبلاً صراعًا مزدوجًا، يفتح الباب أمام مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي، في وقت لا يحتمل فيه الشعب السوداني أي تصعيد إضافي.
رد الحكومة السودانية: صوت فردي أم موقف دولة؟
تعامل الحكومة السودانية مع القرار الأمريكي لم يرقَ إلى المستوى السياسي والدبلوماسي المطلوب. فقد تابعت، كغيري، تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر، الذي وصف القرار بأنه محض افتراءات وادعاءات اعتادت عليها الولايات المتحدة ويعد هذا ابتزازًا سياسيًا، لكن هذا الرد لم يحمل المضمون السياسي والدبلوماسي الذي تتطلبه مثل هذه المواقف.
في تقديري، لم يكن تصريح الإعيسر يُمثل رد دولة تواجه اتهامًا دوليًا خطيرًا، بل بدا كأنه رأي فردي لا يخرج عن كونه تعبيرًا عن غضب سياسي شخصي، يُشبه ما نسمعه من نشطاء سياسيين أو معلقين على وسائل التواصل الاجتماعي. والسؤال هنا: هل نسي الإعيسر أن بيانه يخاطب حكومة بحجم الولايات المتحدة؟ هل من الحكمة أن تُواجه قرارات دولية خطيرة بهذا الأسلوب الاحادي الانفعالي
الحقيقة أن القرارات الدولية لا تُواجه بالشجب والإنكار وحدهما، بل بالأدلة والآليات القانونية والدبلوماسية. وإن اختل ميزان العدالة الدولية في بعض الأحيان، فإن لكل حكومة أدوات قانونية وقنوات يمكن أن تسلكها للدفاع عن نفسها وتفنيد الاتهامات. وهذا يتطلب تحركًا دبلوماسيًا جادًا، يشمل التواصل مع الحلفاء الدوليين، والاستعانة بلجان تحقيق مستقلة أو آليات أممية، عوضًا عن الردود الإعلامية المرتجلة التي تثبت ضعفها مرارًا.
السودان لا يحتمل فتح جبهات جديدة
الوضع الراهن في السودان لا يسمح بفتح صراعات إضافية، لا سياسية، ولا دبلوماسية. فكل جبهة جديدة تُفتح الآن تصب في مصلحة مليشيا الدعم السريع، التي ستسعى للاستفادة من عزلة الحكومة وتحقيق مكاسب سياسية ودعائية على حساب الدولة. وفي المقابل، فإن الردود الضعيفة أو المرتبكة من الجهات الرسمية تُظهر هشاشة الموقف السياسي، وتمنح خصوم الدولة مزيدًا من المساحات للتمدد داخليًا وخارجيًا.
لقد لقد آن الأوان للحكومة السودانية أن تتعامل مع الواقع بعقلانية. فالمكابرة لا تُسهم إلا في إطالة أمد الأزمة. وما نحتاجه اليوم هو موقف رسمي رشيد، يصدر عن مجلس السيادة أو مجلس الوزراء، يتعامل مع القرار الأمريكي بوعي استراتيجي، ويسعى لمعالجة الملف عبر الحوار الدبلوماسي، لا منابر الإعلام وحدها.
دعوة للحل وإصلاح ما يمكن إصلاحه
نناشد حكومة السودان، ممثلة برئيس الوزراء، أن تتعامل مع هذا الملف بمسؤولية وعقلانية، وبالشراكة مع وزارة الخارجية، للنظر في كافة الخيارات القانونية والدبلوماسية المتاحة. كما ندعو إلى مراجعة السياسات الإعلامية والخطابات الرسمية، والانتقال من أسلوب الإنكار إلى تقديم أدلة وشواهد قانونية إن وُجدت، أو التعاون مع لجان تحقيق دولية إن اقتضى الأمر.
ثقتنا في الحكومة ومجلس السيادة لا تزال قائمة، لكن ضعف التجربة الحالية لا يمنحنا رفاهية الصمت أو المجاملة في القضايا المصيرية. لا يمكن معالجة قضايا السيادة والأمن الوطني بخطابات خشبية أو ردود عاطفية، بل برؤية استراتيجية واضحة تستند إلى معرفة دقيقة بكيفية إدارة الصراع السياسي والدبلوماسي.
نحن في السودان نمتلك عقولًا وخبرات وطنية قادرة على إخراج البلاد من أزمتها، شريطة أن تُمنح الفرصة وتُفتح لها المسارات المناسبة للعمل والمشاركة. وإن الوقت قد حان لننتقل من مربع ردود الأفعال إلى مساحة الفعل السياسي المسؤول، لبناء دولة قوية تحمي سيادتها وتصون كرامة شعبها في الداخل والخارج