لم نكن مجرّد عابرين على أرصفة الزمن، ولا رفاقًا جمعتهم صدفة دراسة أو مقعد أكاديمي، بل كنّا حكايةً تجاوزت مفهوم الرفقة إلى رابطة إنسانية نادرة، تشبه ما يُسمى خطأً "الاستثناء"، بينما هي في الحقيقة الأصل الذي غفل عنه الناس.
بدأت الحكاية ككل البدايات العادية؛ مقاعد دراسة، أوراق محاضرات، قهوة مُرّة تُرتَشف على عجالة بين قاعة وأخرى. لكن سرعان ما اتّضح أن ثمة خيطًا غير مرئي يشدّنا إلى بعض، خيطٌ من فهمٍ صامت، واحترام لا يُطلب، وألفة لا تُفسَّر.
لم يكن بيننا حساب مالي يُقيَّد، ولا مصلحة تنتظر موسم القطاف، بل كان بيننا شعور أصيل بالانتماء لذات المعنى، ذات الوجهة، ذات الطموح. كأننا لسنا صديقين فحسب، بل مشروع حياةٍ واحد في جسدين.
إننا، وبلا مبالغة، نقدّم للعالم نسخة مجانية من الصداقة كما يجب أن تكون. نوزّع صكوك المحبة على المارّة من حولنا، ونرسم للعالم صورة لعلاقة ترتقي من الرفقة إلى الأُخوّة، ومن المجاملة إلى الحضور الوجودي.
وكم من لحظةٍ أثبتت لنا أن ما بيننا ليس أمرًا عاديًا.
أتذكّر إحدى المرات، كنّا في جلسة على ضفاف النيل برفقة وزير السياحة. كانت الجلسة تحمل طابعًا هادئًا، ننتظر فيها باخرة شحن، لكن الأجواء أقرب ما تكون إلى ترفيه ناعم منه إلى وظيفة. وفجأة، ومن منتصف النهر، خرجت سمكة قرش ضخمة، كأنها توقّفت للحظة تراقبنا، ثم عادت واختفت.
ضحك الوزير وسألنا بدهشة:
ــ "لماذا خرجت؟ وما الذي جاء بها إلى هنا؟"
نظرنا إلى بعضنا ثم أجبنا بصوت واحد، كأن الفكرة وُلدت في رأسينا معًا:
ــ "ربما أرادت إرسال رسالة، تقول فيها إن صداقات هذا العالم لن تنجح ما لم تتعلم من صداقتنا."
صمت الوزير لحظةً، ثم قال مازحًا:
ــ "الجبنة لا بأس بها، لكن الفطور في الطيارة."
وقبل أن يُكمل حديثه، قاطعه شيخ كان يشاركنا الجلسة وقال ضاحكًا:
ــ "وأنا معكم، سيدي الوزير… إن شاء الله حتى غسيل عَدَّه!"
ضحكنا جميعًا، لكنني كنت أفكّر وقتها: كم من العلاقات تبدأ كحلم وتنتهي كحساب؟ وكم من صداقة وُلدت بريئة ثم ذبلت على أعتاب المصلحة؟
أما نحن، فقد عشنا الحكاية كما يُفترض أن تُروى: نقية، دافئة، خالية من الفخاخ. عشناها وكأننا سطران في قصيدة لا ينفصل معناها، أو كأننا وطن صغير يسكنه اثنان فقط، لكن يتسع للجميع.