لم تعد فزاعة الفقر وغلاء المعيشة وحدها كافية لشرح مأساة الشباب في بلادنا، بل إن مطاردة الدولة لهم، والتضييق عليهم باسم الأمن، جعل الاستقرار حلمًا بعيد المنال. أصبح الشباب الأفريقي، في السنوات الأخيرة، يقف على مفترق طرق كلها تؤدي إلى الرحيل… إلى الهروب من وطن لم يعد يحتمل طموحهم، ولا آمالهم البسيطة.
اتجه البعض منهم نحو البحر، مبحرين في قوارب الموت، تاركين خلفهم أحلامًا ثقيلة، وآمالاً لم تجد أرضًا تنبت فيها. قد يراهم البعض هاربين من المسؤولية، من الوطن، من الطموح، لكن آخرين يرون أنهم على صواب، إذ كيف لمن يقضي عمره في بلده أن يبني غرفة صغيرة بمساحة أربعة أمتار في أربعة؟ وطنٌ لا يمنحك حتى حقّ سقف يظلك، لا يستحق أن تراك تموت واقفًا فيه.
وفي مقابل هذا التيه، اتخذ بعض الشباب سبيلاً آخر، حيث اتجهوا مباشرة إلى ميادين العمل، في الداخل أو الخارج، بحثًا عن لقمة كريمة لا تمر عبر بوابة المفوضيات ولا عبر قوارب الموت. لكن حتى هذه الخطوة، التي بدت أكثر عقلانية، لم تخلُ من الخسائر؛ إذ وجد كثير منهم أنفسهم في بيئات عمل شاقة، وظروف مجحفة، لا تختلف كثيرًا عن اللجوء، بل وقد تكون أكثر قسوة من الغربة. فالهجرة إلى العمل، وإن بدت أكثر واقعية، كانت في كثير من الأحيان هجرة خاسرة من حيث الكرامة والحقوق والآمال.
ولم يعد البحر وحده سبيل الهاربين، فقد أصبحت مفوضية اللاجئين منفذًا آخر، بابًا مواربًا نحو الخارج. بعضهم اختار أن يرهن مستقبله تحت خيام اللجوء، طمعًا في فرصة، أو هربًا من بطش، رغم أن هذه المغامرة في كثير من الأحيان لا تبدو رابحة، خاصة حين تنظر إليها بعين الخوف من المجهول. حتى المفوضية، التي وُجدت لتحمي، كثيرًا ما تتهاون في حياة أولئك الذين احتموا بها، وكأنهم مجرد أرقام في قوائم الانتظار.
أما أولئك الذين طاردتهم كتائب العسكر، وسُحقت أحلامهم تحت بيادات الأجهزة النظامية، فلم يكن أمامهم خيار سوى البحر. بالنسبة لهم، أن يُبتلعوا في الموج، أهون من أن تبتلعهم سجون العسكر. وهم ليسوا فاشلين، ولا جبناء، بل من خيرة شباب هذه الأمة، أولئك الذين تعلموا في أفضل الجامعات، وحلموا أن يغيروا وجه بلادهم.
في ظل كل هذا، غابت مشارف البهجة. لم يعد في الأفق ما يغري بالبقاء، فالبلد الذي يُطارد فيه شبابه، ويُحاصر فيه الحلم، لا يبقى فيه إلا الصمت… أو الرحيل.