في تلك اللحظة التي بدأ فيها صوت صديقي يتهدج، أدركت أن شيئًا ما قد انكسر داخله. لم يكن كعادته، صلبًا، ساخرًا، متمسكًا بخيط الأمل في هذا الوطن المبتلى. كان صوته أشبه برسالة وداع غير معلنة، كأنما اختنق بالحياة هنا، وقرر أن يمضي إلى ما يظنه نقيض هذا البؤس.
قال لي بهدوءٍ مشوبٍ باليأس:
"أنا ذاهب يا صديقي... إلى ما وراء هذا البحر."
لم يكن قراره وليد لحظة، بل خلاصة أعوام من المراوحة بين الرجاء والخذلان. رجلٌ حمل على كتفيه همّ وطن، وركض خلف أحلام تتساقط كلما اقترب منها. كان يعمل بجد، يصحو قبل الضوء، ويعود بعد أن ينام الحي بأكمله، يظن أن في الاجتهاد خلاصًا، وأن الوطن، رغم كل شيء، قابل للإصلاح.
لكن كلما حاول أن يغرس قدمه في الأرض، انسابت الرمال من تحته. قالها بمرارة:
"لقد أصبحنا يا صديقي مشردين داخل جدران بيوتنا، لا نملك من هذا الوطن إلا اسمه، حتى القوانين باتت كأنها لغات غريبة لا تعترف بنا، والدستور صفحة خالية لا تعكس وجوهنا ولا تعبر عن وجعنا."
ثم صمت، وكأن الكلام ثقيل على اللسان، قبل أن يضيف:
"سأهاجر عبر البحر. أعلم أن الأمواج لا ترحم، وأن أجسادًا كثيرة ابتلعها الغياب دون أن يُعرف لها اسم أو نهاية. لكن هنا لم أعد أجد بداية. أبحث عن دولة تحترمني، عن مناخ لا يطرد أنفاسي، عن وجود لا أضطر فيه لتبرير إنسانيتي. ربما أعود ذات يوم، لا أدري... لكنني أحتاج أن أصدق أن الحياة تستحق أن تُعاش."
كان حديثه كصفعةٍ ناعمة، جمّدت داخلي كل الكلمات. أردت أن أقول له: انتظر، تمسّك، قاتل لأجل ما تبقّى... لكنني كنت أعلم أن من يخوض معاركه وحيدًا لا يحتاج إلى نصائح، بل إلى وطنٍ لا يخذله.
صديقي لم يكن خائفًا من البحر، بل كان مرعوبًا من هذا اليابس الذي جف فيه كل معنى.
لم يكن يحلم بثروة أو رفاه، بل بسقف يحمي كرامته، وشارع لا يُهان فيه، وجواز لا يُشكك فيه.
الهجرة ليست نزهة، ولا البحر طوق نجاة، لكنه آخر خيارٍ حين تضيق الأرض، ويصبح الوطن مكانًا يشبه المنفى.
هي محاولة أخيرة للعثور على الذات في عالم لا يقيم وزنًا لمن تُهدر آمالهم داخل حدود لا تحميهم.
وفي عينيه، رأيت حزن من يرحل وهو يعلم أنه قد لا يعود.