في زمنٍ تسارعت فيه الحياة وانكمش فيه دفء العلاقات، أصبحت العزلة الاجتماعية واقعًا يتسلل خفية إلى قلوب كثيرة. لم تعد مظاهر التواصل كما كانت، ولم تعد صلة الأرحام أولوية لدى كثيرين. العزلة لم تعد حكرًا على كبار السن أو من طالتهم مرارات الحياة، بل صارت خيارًا يلجأ إليه بعض الناس هربًا من خيبات، أو اتقاءً لتجارب سابقة، أو حتى بدافع من رغبة دفينة في الانسحاب من كل شيء.
نرى اليوم من يعيشون في قلب الحي، لكن لا نلمح لهم حضورًا في المناسبات، لا نسمع صوتهم في الأفراح ولا نراهم في الأتراح. يبرر بعضهم غيابه بعدم تلقي دعوة، أو بانشغالات الحياة، لكن الحقيقة غالبًا أعمق من ذلك. إنها عزلة نفسية واجتماعية تضرب بجذورها في أعماق الروح.
أذكر موقفًا ترك في قلبي أثرًا عميقًا، حين تعرّض صديقٌ لي لحادث مروري أدى إلى كسر في ساقه، فنُقل إلى مستشفى الحي الذي نقطنه، لا في مدينة بعيدة ولا عاصمة الولاية. كنت أظن أن أصدقاءه ومعارفه سيتوافدون عليه، أن الغرفة لن تهدأ من زوّار يطمئنون عليه، يتبادلون معه الدعاء والكلمات الطيبة. لكنه ـ ويا للأسف ـ قضى أيامه في سرير المستشفى دون أن يطرق بابه أحد.
هذا الموقف لم يكن مألوفًا في بيئتنا. كنا نعدّ زيارة المريض واجبًا اجتماعيًا ودليلًا على تماسك المجتمع. بل كنا نفاخر بعدد الزوار، ونردد أن فلانًا رجل "كراعو ماشّة"، يزور الناس في مرضهم، ويحنّ على فقرائهم، ويصل أرحامه، ويستقبل العائدين من الغربة، فلا عجب أن يُبادَل بالوفاء حين يحتاج إليه.
فأين ذهب ذلك التراحم؟ وأين اختفت حرارة اللقاءات؟ هل أصبحنا نخجل من إظهار المودة؟ أم أننا فقدنا البوصلة التي كانت توجهنا نحو بعضنا في أوقات الحاجة؟
إن صلة الرحم ليست فقط تقليدًا اجتماعيًا، بل عبادة عظيمة تُرضي الله وتُطهّر النفوس. وقد قال النبي ﷺ:
"من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه."
رواه البخاري (5986) ومسلم (2557).
فما بالنا نفرّط في هذا الأجر، ونجعل من العزلة سجنًا اختياريًا نحبس فيه أرواحنا؟
نحن في حاجة ماسة إلى استعادة روح المجتمع، إلى إحياء عاداتنا الجميلة في السؤال والزيارة والمواساة. لا تنتظر دعوةً لتزور مريضًا، ولا تبرر غيابك بانشغال، فربما كانت زيارتك تلك بلسمًا لروح تتألم في صمت.
العزلة قد تُريح الجسد مؤقتًا، لكنها ترهق القلب طويلًا. فافتح بابك للناس، وامضِ إلى من انقطعت أخبارهم، فإن في التواصل حياة، وفي صلة الرحم بركة، وفي الكلمة الطيبة أجر لا يُقدّر.