دراسة نقدية للمجموعة القصصية "على مشارف الجنون" للقاص السوداني أستاذ صلاح عثمان
-----
من ولاية وادي النيل، ومن مدينة عطبرة، مدينة الحديد والنار، ومهد النضال الوطني والحركة النقابية السودانية، (دونما إذنٍ من رئاسة سكك حديد السودان). من مدينة تتوسّط أهم حواضر البلاد —( الخرطوم، بورتسودان، سواكن، كسلا، ووادي حلفا ) ومن أحيائها العريقة: (الداخلة، والسودنة، والموردة شرق وغرب، وحي السوق، والحصايا، والمطار، والسيالة القديمة والجديدة، والقلعة، والطليح) — تدفقت موهبته من شارع الجيش في حي المزاد كما يتدفّق النيل، متغذّيةً من بيئة، خصبةً بجذورها، ماضيةً بجريانها، تجرف في طريقها ما يعترضها من صعاب، كما يفعل العطبراوي أو نهرعطبرة حين يلتقي بالنيل في طريقه إلى مصر. هناك، على ضفاف الإسكندرية العريقة، التي احتضنت لقاء الحضارات وتلاقح المعارف أو بالأحرى هنا في الإسكندرية وفي رحاب جامعتها، بلغت الموهبة مصبّها، واستقرّت في دلتاها الأخيرة.
"يستجمع بكفّيه خلاصة تجربته، وعصارة انفعالاته، وحرارة المآسي التي عصفت به، ليهديها لمن أخذت بيده إلى ضريح العارف بالحب، سيده قيس بن الملوح، وقد استحال سادنًا في عتبته، حبًّا وعرفانًا، وتبتلاً، فلا أبلغ من أن يهبها ذاته، ومقتطفاتٍ من أيامه، وساعاتٍ نازفةٍ من عمره، عربون وفاءٍ لمن أوصلته إلى مقام العشق. حيث روح سيده، ما تزال ترفرف حول ضريحه، حارسةً ومطمئنّةً له بالقرب من نوره."
"على مشارف الجنون"
عنوانٌ مكثّف، يستوقف القارئ بتوتره وإيحائه الخفي.
فـ"المشارف" تفيد الاقتراب من حافة مجهولة، دون السقوط فيها، مما يوحي بحالة من الترقّب أو الاحتدام الداخلي على شفير الانهيار.
أما "الجنون"، فإما دلالة ظاهرة على اختلال العقل أو دلالة مضمرة على اضطراب الوجدان، وقد يكون انكسارًا نفسيًّا، أو تمردًا على الواقع، أو احتراقًا في العشق أو الفقد. فالجنون هنا أفق سرديّ تتجلّى فيه مكاشفة الذات وتشريح لقضايا الوطن ومآسيه
فالعنوان إذن يهيّئ القارئ منذ البداية لنصوص تمور وتنفلت عن المألوف.
تضم المجموعة ثمانية عشر قصة قصيرة في سبع وعشرين صفحة.
تكشف عن عالم مأزوم، تتصدّر فيه الذات الساردة مشهد التوتر، حيث يتقاطع الخاص بالعام، وتتداخل التجربة الفردية مع مرارات الواقع الجمعي. تدور النصوص حول محاور ومضامين تتمثل في الفقد، العزلة، الاقتلاع من الجذور والانهيار الداخلي، وضغط القيم على كيان الفرد.
بنية القصص تتسم بالتكثيف والتركيز، مع اعتمادٍ ملحوظ على توثيق اللحظة الخاطفة بدلًا من السرد التقليدي المتتابع. كثير من القصص تُبنى على تيار داخلي، تتلاحق فيه التداعيات، وتغيب الحدود بين الحلم والواقع، الماضي والحاضر، كما تُستثمر اللغة الشعرية لتشكيل المناخ النفسي والانفعالي للنص.
قد تفتقر المجموعة أحيانًا إلى الحبكة الصارمة، إذ تستبدلها بلحظة انكشاف داخلي، أو ومضةِ وعي، مما يجعل البناء أقرب إلى التجربة الشعورية منه إلى الحكاية المكتملة.
العناوين الداخلية
ليست مجرد لافتاتٍ تعريفية، بل هي مفاتيح تأويل، تنبئ عن طبيعة التجربة السردية وتكرّس أجواء القلق، والترقب، والانفصال الوجداني، لشخصيات تقف على حافة الانهيار، متشبثة بخيطٍ أخير للنجاة.
وتشكل عتبات دلالية تتكامل مع العنوان الرئيس، وتعمل على توجيه المتلقي نحو مناخ النص، ورمزيته. وهي عناوين قصيرة، مكثفة، ذات طابع إيحائي، تتراوح بين المباشر والمجازي، وتنهض بوظائف متعددة:
فبعض العناوين توظف عنصر المفارقة أو الغموض لإثارة الترقب، الذي يدفع القارئ للبحث عن المعنى الضمني خلف المفردة أو العبارة. "خبيئة القدر – نزوح كامل الدسم"
2. وقد تنبئ عن الحالة الشعورية والتعبير عن انفعالات كامنة: كأنها مرآة لانكسارات النفس وتقلباتها، "استشعار الألم – يوم عبوس"
3. وقد تستند إلى رموز مفتوحة: كـ" قلبي مفتوح - ليلة الوصل "، وهي ألفاظ محمّلة بدلالات فلسفية وقد تترك المجال لتأويلات متعددة، وتمنح النص عمقًا يتجاوز ظاهره السردي.
4. وفي حالات محددة، تتجه العناوين نحو الطابع القصصي الكلاسيكي، فتُلمّح إلى حدث أو شخصية أو نقطة تحوّل، ولكن حتى في هذه الحالات، تحافظ على اقتصاد لغوي واضح وتجنّب التفسير المباشر." سبق وظيفي – العود أحمد – خفايا- الغشيم".
رتبت العناوين بحنكة وإن لم يكن عن عمد، حيث بدأت ب "كان لي" وانتهت "بخبيئة القدر" (بدأت بفقدٍ ثم انتظار وترقب) كذلك في عنوان "إلى المطار الدولي أم الزنزانة" متبوع ب"العود أحمد" لتُكَون المجموعة وحدة سردية متكاملة.
الشخصيات:
شخصيات "على مشارف الجنون" ليست بطولات تُروى، بل إنها تجسيد لأطياف بشرية معلّقة على حافة السقوط، في عالم فقد يقينه واستقراره واقتلع من جذوره. شخصيات تُكتب لا لتُخلَّد، بل لتُفهم، أو على الأقل لتُرثى.
تتّسم الشخصيات في هذه المجموعة بسمات داخلية مركبة، فهي ليست كائنات فاعلة في عالم خارجي بقدر ما هي ذوات مأزومة، محاصَرة بأسئلتها، على تخوم الانهيار. فمنها اليائس والحاقد والمريض بالشك...
شخصيات تعيش توترًا داخليًّا حادًّا، يتجلّى في صراع بين الرغبة والواجب، الحنين والانفصال، الحياة والموت. هي شخصيات في معظمها تعاني، من العجز عن الانسجام مع الواقع أو التكيّف معه رغم محاولاتها.
تعاني نزعة الانسحاب والعزلة، غالبًا ما تكون علاقتها بالعالم مشروخة أو مرتابة. لا تصرخ بآلامها، بل تتوحد معها، وتكتبها وتتوه فيها
تبدو وكأنها وعيٌ يتحدث، أو شعورٌ يتدفق، لا كائنات تتحرك في الواقع. مما يعكس البناء النفسي والانفعالي للنص.
يلجأ الكاتب الى تجريد الشخصيات وتهميش الهويّة فنادراً ما تُعطى الشخصيات أسماء واضحة أو أوصافًا خارجية تفصيلية؛ فهي أقرب إلى رموز أو حالات شعورية منها إلى شخوص تقليدية. وهذا يعزّز طابعها الكوني، ويجعل منها مرايا للقارئ ذاته، لا نماذج اجتماعية مرسومة.
1- الشخصيات الذكورية:
تتجلى غالبًا في هيئة الرجل الحائر، المشدود بين الذاكرة والواقع، أو المنكسر تحت وطأة الفقد أو العجز. تعبرعن أزمة انهيار الصورة الذكورية الكلاسيكية.
أمثلة رمزية: الأب الغائب، العاشق المحطّم، أو المثقف المنعزل.
2- الشخصيات الأنثوية:
تحضر غالبًا بوصفها كائنات موحية، مشبعة بالرمز.
أحيانًا تكون رمزًا للخلاص، وأحيانًا أخرى تكون مرآة للخذلان أو التوازن المفقود
* المرأة المقهورة (ليلة الوصْل).
* المرأة المغتربة، المعلقة بين وطنين (الغشيم، نزوح كامل الدَّسَم).
* المرأة المستقلة التي تسرد معاناتها بجرأة (قلبي مفتوح).
* رغم أن بعض الصور النمطية تظهرها أحيانًا (المرأة المظلومة، المترددة) ، فإن الكاتب ينجح في منحها عمقا داخليًا قويًا في بعض القصص،
3- العلاقة الشخصيات الذكورية والانثوية ليست متوازنة أو مكتملة، بل تقوم على صراع غير معلن. فالرجل يفتّش عن المرأة الرمز المفقود، وهي تحضر كصورة أكثر من حضورها كشخص
معظم القصص تنطلق من زاوية الراوي الذاتي (ضمير المتكلم) ، ما يمنح النصوص طابعًا اعترافيًا ونفسيًا عميقًا.
* الراوي غالبًا رجل، يعاني من خذلان الواقع المحيط أو أزمة داخلية، لكن لا تغفل باقي القصص قضايا المرأة.
الزمان
يُشكّل الزمان في هذه المجموعة عنصرًا داخليًا لا يُقاس بالتقويم المعتاد، بل بنبض الوجدان، فالقلق والحنين والفقد هي محركات الزمن .هو زمان شعوري، مشوَّش، لا يسير بخطٍّ مستقيم، بل يتكسّر ويتداخل، وفق تداعيات الذاكرة. يُستخدم كأداة للكشف عن التحولات النفسية، أكثر من كونه مسارًا خطيًا للأحداث.
تعددت صور التعبير عن الزمن في المجموعة
1- الزمان النفسي (الذاتي):
هو الغالب، حيث يتقدّم السرد وفقًا لحالة السارد النفسية، لا وفق تعاقب الأحداث المنطقي. لحظة واحدة قد تُستغرق في صفحات من التأمل، بينما أعوام كاملة قد تُختزل في جملة واحدة، أشبه بزمن الحلم أو الهذيان، حيث يمتزج الماضي بالحاضر، ويتسرّب المستقبل كهاجس لا كتوقع
2- الزمان الماضي:
لا يحضر بوصفه زمن مضى بل كذاكرة جريحة، تفاقم الإحساس بالخذلان.
3- الزمان الحاضر:
غالبًا ما يبدو ضبابيًّا، مثقلاً بالفراغ.
وفي بعض النصوص، لا تُذكر أي إشارات زمنية واضحة، مما يكرّس إحساسًا بالتيه واللايقين.
* هناك زمن دائري أحيانًا: يبدأ السرد بلحظة آنية ثم يعود إلى الماضي ليشرح ما جرى، كما في "العود أحمد" و "ليلة وصل".
* الزمن الواقعي غير دقيق دائمًا، ولكنه يتضح عبر إشارات (مثل: لحظات في مطار، مساء المسابقة، الانتقال بعد الحرب) ما يربط القارئ بسياق اجتماعي وتاريخي.
المكان
لا يتجلى المكان في هذه المجموعة بوصفه مسرحًا للأحداث، بل بوصفه فضاء نفسي داخلي يعكس انفعالات الشخصيات، ويُترجم قلقها فهو مكان رمزي، أكثر منه جغرافي أو واقعي.
فاستخدام المكان هنا ليس ديكورًا بل يظهر ككائن حي يتنفس قلق الشخصية ويبوح بكآبتها. فالذات لا تسكن المكان، بل تتخذ منه مرآة لهشاشتها .
* تظهر عدة فضاءات مألوفة:
* المطار، المنزل، المؤسسة...
* الأماكن تتسم أحيانًا بالغموض أو العبثية، وتلعب دورًا نفسيًا:
* السجن كمجاز عن الخيانة والخذلان .
* المطار كمجاز عن الانتقال، أو الهروب، أو الوداع.، وقد تكرر كثيرا في عدة قصص "الى المطار الدولي او الزنزانة – العود أحمد – الغشيم – استشعار الألم".
المكان الداخلي قد يكون الغرفة، وقد يكون الذاكرة أو الذات، حيث تنغلق الشخصيات على عوالمها الضيقة
فهذه الأماكن الصغيرة تعكس انكماش الذات، وحالة العزلة والانفصال عن العالم، الغرفة ليست مجرد حجرة، بل سجن روحي، والمرآة ليست سطحًا عاكسًا، بل بوابة الى عمق الذات.
الطرق و الشوارع لا تشكّل براحًا، بل تمثّل خواءً خارجيًا أو صخبًا لا تندمج فيه الشخصية وترتبط دائما مع الإحساس بالاغتراب
يطفو أحيانًا المكان الرمزي، كـحالات ذهنية مجرّدة، تعمّق الإحساس بالتيه.
في كثير من القصص، لا نعرف على وجه التحديد أين تدور الأحداث. فالمكان مبهم، يتلاشى خلف الذات.
وهذا يعزز الشعور بأن الزمن والمكان كلاهما ذائب في النفس، لا في الخارج.
* السرد يتنوع بين:
* ضمير المتكلم: وهو ما يمنح القارئ تعاطفًا مباشرًا مع البطل.
* ضمير الغائب: في قصص قليلة، يُستخدم للرصد الموضوعي.
* الاعتماد على الفلاش باك تقنية بارزة،
* النهايات المفاجئة (الصدمة): حاضرة، لكنها أحيانًا تميل إلى الهدوء المأساوي لا الإثارة.
الحوار:
* قليل نسبيًا، وحين يظهر، فهو مقتضب، يوظف لكشف الانفعالات واحيانا يقوم بدوره في دفع الحدث قدما. "الغشيم"
حوارات غير مكتملة وبقايا لقاءات من علاقات غير متماسكة لأطياف من حب غابر.
اللغة:
رشيقة، يتضح فيها الاقتصاد اللغوي، فاللغة مكثفة جدا، مشحونة بالشاعرية أحيانًا، لكن دون إسراف، بل انزياح نحو اللغة الدالة. هذا الاقتصاد يسعى لتربية المتلقي على التعمق في القراءة المتأنية.
البعد الرمزي والإنساني لبعض المفردات
* الجنون رمز لحالة نفسية واجتماعية، اكثر منه مرض بيولوجي.
* الماء (زمزم،): التطهير أو التحول للافضل
* الطائرة / السجن = الرحيل أو القيد.
* النظر / الصمت / الرسائل = وسائل غير مباشرة للكشف أو الهروب.
نظرة سريعة على القصص:
1- كان لي:
استهلال القصص بالسلب وبالافعال الماضية تستجلي الفقد وعيش زمن لم يتبق منه الا الذكريات، دوال تُظهر تدرج الزمن نحو الأفول "أضحت، بتُ.."
أب في العالم الآخر لايمتلك إرادة الدفع عن ولده او العودة لدعمه، يحيا هناك وابنه هنا يحيا بالأمل أن يلاقيه يوما بعد أن استحالت الحياة بشكلها المعروف، فبات الأمل رمزا لفقده لا لوجوده.
2- فهمٌ حدسي
النهاية لم تفاجئني ولكنها أكدت حدسي فصفقت لها ولنفسي فهذا الزوج الذي استطاع ان يعيش تلك السنوات مع زوجة عهد تمردها منذ سنوات الدراسة الجامعية وحتى صارت مذيعة لبرنامج معروف، لهو قادرٌ على النجاة من فخٍّ إعلامي، أعدّته "معدةٌ محترفة" في نصب الشَّراك، لكن زواجه المستمر طويلا هو بحدّ ذاته شهادة على أنه الأكثر حنكة ودهاء ممن يُعدّ الأسئلة خلف الكواليس.
3- بعد حين
عنوانٌ مُلغزٌ، يفتح أفق الترقب: ماذا سيحدث بعد حين؟
هل ثمّة تحوّلٌ مرتقب؟ هل يحمل الزمن وعدًا بالتغيير؟
القصة تُجيب:
لا تغيير في جوهر النفوس؛ فالنفس الخبيثة لا تتطهّر، بل تغور في دركها السحيق، منحدرة بانحطاطها نحو مزيدٍ من الخسّة والحقد المعلن.
في المقابل، النفس الطيّبة، تظل تعطي وتسامح، تحوّل الخذلان إلى نور داخلي، فتغدو موضع غيظٍ لمن تلطّخت روحه بالحقد الأعمى لا تردعه القربى ولا يثنيه الرحم.
4- خفايا:
في هذه القصة، نحن أمام شخصية مأسورة بالشك، تعيش في ظلال الظنون. كل ما يحيط بها يبدو وكأنه خفايا مريبة، تُؤوَّل في ذهنه على هذا النحو.
لا يسعى لاستجلاء الحقيقة، بل يفضل الهروب منها، مسكونًا بتوقع الأسوأ، عاجزًا عن منح ثقته لأي أحد أو أي شيء. فيرسم النص ملامح إنسان، يعيش يعيش في هوة الريبة، داخل أسوارٍ بناها من الشك، لسجن داخلي خانق، لا مفرّ منه إلا بمواجهة ذاتٍ لم يعد يعرفها.
5- ماء زمزم:
عنوانٌ ينطوي على مفارقة دلالية: إذ يبدو خادعًا في ظاهره، لكنه يحمل في عمقه صدقًا مجازيًّا.
فهو لا يتحدث عن زمزم النبع، بل عن صبية تحمل الاسم نفسه، لم تكن تعلم أنها وبلا قصد، قد أهدت شاعرا شرارة الإلهام، فغيّر قصيدته التي أعدّها مسبقًا وتقدّم بها إلى المسابقة بنصّ جديد، فاز به بسبب قارورة الماء خاصتها.
هي قصة انتصار الحدس على الإعداد، اللحظة العابرة على التفكير الطويل، بل وانتصار القدر على الطريق الذي كنا نظنه محسومًا.
وهكذا، تلمّح القصة إلى فكرة عميقة قد يحمل حدث بعفويته قدرا أعظم من كل ما خططنا له بإتقان. لتصبح قارورة زمزم لما شربت له.
6- إلى المطار الدولي أم الزنزانة:
القصة تُروى بأجواء ضبابية، وكأنها كابوس داخلي، ان كان نتيجة حتمية لذنبٍ سابق، أو حدثا سياسيا مفاجئا. النتيجة واحدة. النهاية مفتوحة، لا يعلم البطل إلى أين تنتهي به الحال في سيارة الأجرة، إلى المطار الدولي أم الزنزانة، لايهم فلا فرق بين النفي أو الحبس أو حتى الموت بعلة لا شفاء منها، هو اغتراب قسري لمن امتلك العزيمة ولم يمتلك أسباب الحماية.
7- العود أحمد
مفارقة عنوانية، بشرى تُخفي نذير الشر
فالعنوان يوحي في ظاهره بالطمأنينة والفرج، لكن القصة، تُشيع جوًا من التهديد الخفي، حيث يرافق السارد شعور بالخطر الداهم، ويتعامل مع الأحداث بحدس من يستشعر أن هناك مكيدة تُحاك له في الخفاء.
وتأتي الجملة الختامية لتكشف ذروة المفارقة حين يقول:
"انتظر رجلاً من أقصى المؤسسة يسعى..."
ليُتمّ القارئ في ذهنه تلقائيًا الآية: "إنّ القوم يأتمرون بك ليقتلوك."
هذه الإحالة إلى قصة موسى عليه السلام "القصص25" لا تُستخدم عبثًا، بل تضع البطل في موضع من تُحاك له مؤامرة من داخل المنظومة نفسها، وتحوّل "المؤسسة" إلى رمز للسلطة القامعة أو الخيانة الداخلية.
8- الغشيم:
قصة تكشف عوار تزيّف النوايا
غشيم عجز عن قراءة الإشارات، لم يدرك منذ البداية انه كان مجرد وسيلة لا غاية، فقد تزوجت به فقط لغرض الانجاب، ولما لم يتحقق مرادها، بدأ النفور، فآثرت السفر والترحال، مبتعدة عنه وركبت الطائرات التي لا تزال تهابها – في مفارقة تكشف مقدار النفور الذي غلب الخوف ذاته.
القصة تُشير إلى فشل الإنسان في مواجهة نفسه، فالخداع يبدأ من الذات: حين لا نكون صادقين مع أنفسنا في الأسباب الحقيقية لقراراتنا.
هي ليست قصة رجل خُدع، بل نمط إنساني من الزيف الذاتي والتواطؤ الصامت، حيث النية غير المعلنة التي تُفرغ العلاقات من معناها، وتحيلها إلى عقود مؤقتة بلا جذور.
الغشيم ليس وحده من ضُلّل، بل هي أيضًا غشيمة في علاقتها بنفسها، وفي اعتقادها أن الأمومة يمكن فصلها عن الصدق الإنساني.
9- استشعار الألم:
يعود السرد إلى المطار، صالة المغادرة لا الوصول، ما يرسّخ حالة اللاعودة، والتنقّل الدائم، والاقتلاع من الجذور. القصة ترصد الاغتراب بوصفه قدَرًا دائمًا، لا خلاص منه.
السارد يتأمل نفسه، ومن حوله. الكل يلهث في دوّامة واحدة هي: الغربة من أجل لقمة العيش.
وتأتي الذروة في جملة ختامية لاذعة: "تبًّا لسنوات الغربة، فلم تُتح لنا غير الدوام."
هنا تظهر مفارقة لغوية ودلالية بارعة فـ"الدوام" عادةً يُقرَن بالثبات، بينما الغربة والسفر حركتان لا استقرار فيهما. استخدم الكاتب مفردة "الدوام" معبرا عن ساعات العمل ليكشف أن التغيير الظاهري بالسفر قد يكون استمرارًا لثقل ذاته الداخلية، ولكن بلغة أخرى.
10- سبق وظيفي:
قصة تسرد فيها البطلة؛ الفارق الجوهري بينها وبين زوج يؤمن أن كل شيء سيأتي في وقته، لا يُعاند القدر، بل يسكن إليه بثقة ورضا.
وهي تؤمن بالسعي والتغيير، ولا تطيق الانتظار، تقفز نحو الحياة، وتسعى لأن تُشكّلها بإرادتها.
لكن المفارقة تنكشف حين يُقبَل زوجها في الوظيفة التي كانت هي تطمح إليها وتقدمت لها وقد ذكرته في أوراق التقديم من مجمل بياناتها.
وهنا تذعن لحقيقة صادمة: ربما كان يقينه أبلغ من سعيي
القصة تُناقش ثيمة صراع الإرادتين :السعي والرضا
لكن النتيجة تحسم لصالح الإيمان الهادئ بالقدر، فتطرح القصة سؤالا:
هل السعي وحده يكفي؟ أم أن للرضا طاقة خفية تُجذب بها الأشياء؟
11- قلبي مفتوح:
حكاية كاتبة خرساء يتكلم عنها جرحها، يُحتفى بها ككاتبة خيال، فيما هي تكتب الواقع، خيانة مزدوجة من الزوج والصديقة.
حين تصدم المرأة، ينعقد لسانها. فيصبح الصمت عقابًا ذاتيا، وانكماشًا وجوديًا.
تمضي في حملها ووحدتها، ثم يموت الزوج، وتغيب الصديقة، فتنجب طفلتها في عزلة مطبقة. لكن المفارقة الأكثر ايلامًا حين تنقضي عدتها، تتنازل عن الطفلة لتلك الصديقة، وتغادر البلاد بصمت تام. مختارة الانغلاق الابدي عن القلب المفتوح.
تتنازل عن كل شيء، حتى عن الأمومة. ترحل كأنها لم تكن،. إنها قصة الخذلان والصمت الذي يتحدث أبلغ من الضجيج.
12- ليلة الوصل:
القصة في جوهرها مرثاة للعدالة المغيبة في العلاقات الإنسانية،
هي ليلة وصل لمسؤولية عجز الزوج عن حملها فحملتها عنه زوجته حتى فارقت الحياة بلدغة عقرب، ولما تخير من تعينه بعد وفاة الزوجة بناء على نصيحة من حوله، زادت من أعبائه دون قصد بانجاب طفلة منه بعد أن ظنها مطلقة عقيم. وهنا تُكشف المفارقة: فالقرار الذي اتُّخذ على افتراضات خاطئة، قاد إلى مصير مُضاعف من المسؤولية والتعقيد للأسرة والأب.
في القصة الكل مهزوم: حيث تُلدغ المرأة العاملة وتفارق الحياة.
ابن يتأرجح بين اعتذار لابيه وبين مسؤولية يعلم انه حاملها يوما ما لا محالة.
وزوجة ثانية: عانت ظلما في حياتها السابقة واللاحقة، حياة انتهت وأخرى بدأت نتيجة افتراض خاطئ لا واقع.
رجل مقصر بسبب المرض وبدلا من التخفف من المسؤولية تزيدعباءه وتبدأ المأساة من جديد فهل نتوقع نفس النهاية؟
13- نزوح كامل الدسم:
القصة تجسد تراجيديا النزوح، في إطار إنساني عميق يخبر عن القدر حين يختار توقيته الخاص.
قصة ترويها عدسة صحفي، في سرد عاطفي لانبعاث الحياة من قلب الحرب.
رحلة قسرية تنقل أسرة ميسورة الحال من الاستقرار إلى التيه، في سردية تشبه سيرة آلاف اللاجئين في عالمنا المعاصر.
في قلب هذه المعاناة، حين يتحول اللقاء الحميم بين الزوجين الذي هو من أبسط حقوق البشر، الى أن يصبح معجزة صغيرة.
ويشاء القدر أن يثمر هذا اللقاء لحمل طال انتظاره ليختار الصحفي، تسمية المولود بـ "ابن السبيل" — في هذا الاسم تكثيف رمزي بالغ: فهو ابن الطريق، لا الوطن، ابن الغربة، لكنه ثمرة لحظة صدق وحب وسط الفوضى، وشاهد على قُدرة الحياة على البزوغ من بين الأنقاض.
14- منعرج الوادي:
قصة تلتقي فيها الأهواء بالسيول لتُكَونا معًا وجهين لعاصفة واحدة اجتاحت حياته، وغيّرت مصيره مرتين فالرجل ضحية أهواء عاطفية ومائية، كلاهما جرف بحياته:
في المرة الأولى، عصفت به الأهواء والنزوات، وأدت إلى فقدان زوجته وأطفاله، غرقوا في سيلين متوازيين: سيل المشاعر المضطربة، وسيل الماء الكاسح.
ظن أنه نجا وأن الحياة أعطته فرصة ثانية. زواج جديد، بداية مختلفة.
لكن في ليلة العرس، يفاجأ بعودة الرمز القديم: سيل جديد يأتيه كأن الماضي لم يغادر، لا يجيب على اتصال الزوجة الجديدة، يريد فك الارتباط مع الكارثة فلن يسمح لحياته أن تُجرف ثانية، عند المنعرج ذاته.
السيل: يرمز للماضي، والطوفان العاطفي.
الهاتف المحمول: رمز الصلة، يأخذه السيل وكأن الماضي يطالبه بقطيعة حاسمة
نخلص من القصة لحكمة أن الماضي، حين لا يُحلّ، يعود في هيئة مختلفة، لكنه يحمل ذات الطوفان .وعلينا تحديد طريق النجاة
15- يوم عبوس:
العنوان يحوي مفارقة دلالية، ويؤسس لتأثير مزدوج على المتلقي فحين يوحي يوم عبوس" بالشؤم والحزن ويستدعي دلالة قرآنية من قوله تعالى: "يوما عبوسًا قمطريرًا" أي يوم تتجهم فيه الوجوه، وتختنق الأرواح، تمضي القصة على هذا النسق الكئيب حربٌ، دماء، سيلٌ لا يُمكن اجتيازه، وضياع العمر. تأتي المفاجأة فالقصة لا تُختتم بانكسار، بل بشعلة أمل:
"ما دام الدم يجري في العروق فالغيث ممكن، والخير آتٍ." واليوم العبوس يتحول الى بزوغ فجر، وبتلك النهاية تنتصر القصة على العنوان.
16- بيت القصيد:
لغويا: هو البيت المذكور فيه غرض الشاعر وهو أحسن أبيات القصيدة، وصار يطلق على القصد الذي يرمي إليه المتحدث، أي هو خلاصة الموضوع.
في القصة مزيد من الحروب والضياع والنزوح
في لحظةٍ خاطفة، خجل من نفسه...كم مرة ضيّع الودّ خلف قناع التحفّظ؟
كم قصيدة لم يُلقِها لأنه آمن أن "الخاصّ ممنوع"
أما "بيت القصيد"، كان وجهاً عرفه من شاشةٍ... والتقاه في الحياة.
ليوقن أن الحرب لا تسرق البيوت فقط، بل تسلب المعاني والعلاقات.
القصة تحتفي بلحظة إدراك مفاجئ أن التقنية لا تعوّض الدفء الإنساني، وأن المواقف هي من تُعرّفنا على حقيقة الناس، لا الملفات الشخصية.
17- النبق:
في لقاء بعيد عن السياسة، من برنامج مشوار المساء يستعيد وزير الزراعة ذكرى قديمة من شبابه حين كان يبيع النبق في السوق، شعر بالعطش، وفتاة في بيت قريب أعطته كوب ماء وعنقود عنب. فشكرها بطريقته، وأعطاها كيس النبق كله.
كان ذلك العنب سببًا خفيًا في اختياره المجال الزراعي.
(تحدث المفاجأة وتتصل الفتاة بالبرنامج بعد كل هذه السنوات، لتقول: "أنا من أعطيتك العنب.
ثم تعقبها زوجة الوزير باتصالٍ آخر، فيه دعابة محببة:
"نشكركِ على الذكرى، ولكن نرجو أن تعيدي كيس النبق الفارغ!")
نرى عذوبة التفاصيل الصغيرة:
كوب ماء وعنب قد يغيران مسار حياة شخص ما، وقد يفتحان طريقًا لا يخطر ببال.
الوزير، رغم منصبه، لم يتعالَ على ذاكرته، بل حكى القصة بعفوية، مما أضفى صدقًا وجمالًا على الحديث.
المرأة حاضرة مرتين:
الأولى: فتاة العنب والموقف الإنساني النبيل.
الثانية: زوجته، التي تتدخل بروح دعابة راقية تُشير إلى التلاحم الأسري والبساطة رغم الموقع الرسمي.
مشهد لافت يخرج المسؤول من عباءة السلطة، ويعيده إلى إنسانيته الأولى، ويذكرنا أن أجمل الحكايات تبدأ أحيانًا بكوب ماء... وابتسامة.
18- خبيئة القدر
خبيئة جاءت من رحم القسوة فاخرجت مكامن القوة في نفس شمرت عن ساعد الجد بعيدا عن الأهل وطورت من نفسها ودرست في الجامعة حتى تبوأت منصبا مهما بسبب ذلك القاسي الذي يجلس على مقعد متحرك يقدم الاعتذار فيلطف له القول من منصبه الجديد عرفانا بفضله.
القسوة هنا لم تكن نهاية، بل كانت بذرة قوة أزهرت طموحًا ونجاحًا.
المشهد يكرّس مفهوم التجاوز لا الانتقام، والعرفان لا الحقد، فالقوة الحقيقية ليست في الصعود وحده، بل في الترفّع حين تُتاح فرصة الرد.
مجموعة "على مشارف الجنون" للقاص صلاح الدين عثمان عمل أدبي متماسك من حيث الرؤية والبناء، يستند إلى حس إنساني عميق، ويستخدم لغة مكثفة موحية، وتقنيات سرد حديثة.