هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة انجي مطاوع
  5. شهرنان (رواية) الجزء الثاني

«شهرنان».. تهل ملامحها مثارة بفرحة طفل مشاغب، تخبرنا عن حب شقي مجنون الملامح لأنثى ورجل من سراب الغرام، أنثى تعشق الجنون، والجنون عندها فنون، عاشقة بدرجة قاتلة، هي تهوى العشق بعنفوان موج البحار، تترك لها «شهرنان» مجال الحديث؛ فمعها قد تطول أسلحة الحروف لتقتل كل من يخالف أو قد يناله منها فحيح التذمر لمقاطعة حبها الغريب.

تقول تلك الغجرية المشاعر: إحساس الأنثى سيد قلبي ليس مجرد مشاعر بلهاء، هو غريزة ملأى بحياة تنبض وأسلاك ناقلة لكل الإشارات، تحولها لرموز ومعانٍ مفهومة، هو جسر متفجر وأسوار مكهربة تغتال كل من يقترب وبنيته شر أو سوء، هو إحساس يقوى في ظل الخطر بفقد حبيب أو مالك للروح، وإحساسي دومًا بك موصول، فأنت حبيب معك أصول وأُثير جنون الكون.

أنت يا من تتخفى برداء الدم وتغوي إحساس الأنثى بداخلي وتشاغله، شفتاك لهيب مستعر يجذبني ليُثير جنوني، عيناك المخفيتان بالأستار قناديل تأسرني، ويا ربي من أنفاسك، عطر شرقي يدفئني، بصيف بارد وشتاء ساخن يسجنني.

أشتهي قبلة تضاهي لدغة ثعبان الأناكوندا، خطورة ضمة بأحضانك تحطمني بوزن فيل عملاق، أتمنى دفئًا يغلف مسامي كإحاطة عصفور بوردته الحمراء، أنتظر عشقك يسكنني كحبات سنبل أخضر ما زال يانعًا ينتظر الري في وسط الصحراء.

أدعو برعد وبرق يخطفانني في صيف أيامي، مطر وثلوج تكفن سقم وجفاء أحلامي، أعاصير وزوابع تحطم أشيائي بنظرة عينيك، براكين وزلازل تهدم أوهامي، بغيابك أنتظرك وأنتظر وجودًا حانيًا وقاسيًا في نفس الآنِ.

أعلم أن الأناكوندا قاتل متوحش، لكني أتمنى الموت على عتبات العشق دون ندم، أنتظر التحطيم بين أنياب فيل مصارع يهواني، الشوك هو ضريبة حب وبراءة تسكن عشاقًا ومحبين بصفاء، حتى السنابل ستزهر بفرح في دنيا محبين، متخطية أية عقبات بالية.

آه من صراع فناء براكين وزلازل وحتى أعاصير وزوابع عشق هي أمطار صيفية وثلوج ناعمة، تفرش أرض العشاق بورود حمراء زاهية، أنتظر حبيبي بصفات متوحشة كالبربر أو حتى مغولي الحب، حبيب الرقة عنوان عينيه، والحنان لون يديه؛ فأنا لا أرغب بحبيب بارد هادئ القسمات، أنا منتظرة حبيبًا فارسًا للغرام، حبيبًا عاشقًا رجلًا حقًّا يشملنا بحب وحنان ووفاء.

فأنا قلبي عاشق للغموض، يحب الصمود إذا كنت أنت من تسكنه، يا وردتي المضيئة في عالم الأحلام، يا حبيبًا أعشقه واقعًا وخيالًا، يا عالمًا ورديًّا يحويني ويشفيني من أي آلام، معك سأسافر في الصباح، معي الضياء مجال للهروب، لأهرب من البراح وأسكن سماء غروبك بداخلي، فأين أنت؟ ما زلت أنتظرك.

* * *

رحلة مع نايف المصطفى

ما زلت لا أستوعب أن «نايف» جاسوس، أعلم أن المنطقة كلها حكت وتحاكت عن هذا الأمر لفترة طويلة، إلا أنني للآن أستغرب فعله، أتصدقين ذلك «عائشة»؟ كيف فعل هذا؟ كيف باع أهله؟ كان يبدو طيب القلب نقي السريرة كالأطفال، «نايف» ذاك الثُعبان الناعم الملمس، الساكن الحركات، القاتل النغزات..

انتظري أمي، سأقرأ لكِ ما سجلته عن «نايف»، وقصته كاملة كما جمعتها من الجيران والجرائد، وكما جاء في اعترافاته بعدما قُبض عليه، أتعلمين أين زوجته الآن وإخوته؟! جللهم بالعار، لا سامحه الله، أذلهم وألبسهم شوك الهوان بفعلته تلك، قتل والدته بدم بارد.

هيا تعالي سأقص عليك قصته.. اتركي هذه الأقمشة وماكينتك العتيقة وركِّزي معي..

«عائشة».. اهدئي، فلديَّ الكثير من العمل يجب تسليمه، سأنتهي وآتي إليكِ لتخبريني كل ما تريدين طيلة الليل.

«عائشة»: طيلة الليل تنامين كما فيل مقتول أمي، هيا تعالي وأسرعي..

«حبيبة»: يا ربي.. «عائشة»، لِمَ تبدلت شخصيتك الآن وأصبحتِ متكلمة لحوحة؟! سأعقد معكِ اتفاقًا، سأتركك تأكلين أذني كل ليلة بعد انتهائي من عملي لمدة ساعة، على أن تعديني بمساعدتي قليلًا عندما يزدحم المكان بالجيران والعمل.

«عائشة»: لا أريد، لا أُحب أن أرى أحدًا.

«حبيبة»: إذًا أُلغي الاتفاق، سأذهب لأُكمل عملي.

أمي.. اصبري قليلًا، انتظري، أمي.. أعلن أمامك فشلي في فن وثقافة الترحاب، بهجة وزخم إقامة احتفاء بشهية فرح بعد غياب، قُبلة مقابلة ودمع وداع، فأنا لقيط في علوم اجتماعيات الاستقبال، بِرُقي معزة وغلو غائب، ها هو قيد لمح البصر بعد فراق وليالي وجع وعذاب، لكني أفتقد الرغبة والقدرة على حسن استقباله وأفضِّل كوني وحيدة في حضوره.

نظرت إليَّ نظرة قاسية وتركتني، يا ربي.. تريد استغلال الفرصة لتجعلني أختلط بجيراني وبالبشر من جديد، لكنني لا أستطيع، لم تعد لديَّ هذه القدرة..

بعد صمت لنصف ساعة كامل، صرخت: حسنًا، سأساعدك ولكن بعد انصرافهم. كانت هذه الوسيلة الوحيدة لتوافق أن أحكي لها.

ماذا كتبتِ؟ سوف أنتحر يومًا بفضلك.

«حبيبة»: حسنًا، هي بداية، لا مانع، انتظريني ليلًا، ولمعلوماتك إذا انتحرتِ سيتزوج «مازن» أخرى (آه منها، قالتها باسمة لتكيدني).

انفردتُ بعدها بدفاتري، أرتبها لأُحدد بما سأبدأ حكايتي، والكمية التي سأُخبر أمي «حبيبة» بها، كي ألحق موعد برنامجي المعتاد ليلًا..

وأخيرًا هلت أمي ضاحكة، تطلب قصي حكاياتي، كانت سعيدة لأني أحضرت الشاي لجارتنا «زَينَب» حسب الاتفاق الأخير مع أمي.

«حبيبة»: هيا ابدئي وراعي أني تعبة طيلة اليوم، وأتمنى فرد عظام جسدي المنهك على السرير الآن، لأخلد للنوم، حسنًا ابنتي الجميلة.

«عائشة»: حسنًا أمي، لن أطيل كثيرًا، هي ساعة ثم سألحق موعد برنامجي وأترككِ تنامين بهدوء، هل أبدأ؟!

***

 

نايف المصطفى

«حبيبة»: ابدئي..

سأخبركِ بموجز عن حياته، نايف المصطفى، شاب من أبناء الجنوب.. فقير الحال، أحب بلا أمل، قاده حلم الثراء ورغبة الانتقام ممن سخروا منه إلى الوقوع في شرك الجاسوسية.

وُلد نايف حسين المصطفى بقرية البستان، على مقربة من الحدود اللبنانية - الإسرائيلية عام 1942، كان أبوه بائعًا جوالًا للملبوسات الرخيصة، يطوف بها عبر القرى المحيطة، يصطحبه «نايف»، أكبر أبنائه.

فشل في التعليم بعد الابتدائية، امتهن الكثير من المهن ولم يوفَّق؛ إذ كان لا طموح له، همه الأول والأخير السينما وأخبار الفن، وكثيرًا ما كان يهرب إلى مدينتي «صور» أو «صيدا» لإشباع هوايته تلك. عندما مات والده، وكان يبلغ الثامنة عشرة، توسط له البعض وحصل على وظيفة بمصلحة البريد.

أتعلمين أمي؟ ما زلت أتذكر منظره، هو كما هو.. تتعاقب عليه الأيام وتتبدل الوجوه والأحوال، إلا هو..

دومًا يدفع بدراجته المتهالكة كل صباح حتى يصل إلى التلال والمدقات لإيصال بريده المعتاد.. سمعت أنه كان يحب في صغره ابنة عمه «زليخة»، لكنها تزوجت قريبًا آخر لها، توفي بعد فترة قصيرة فعادت إلى بيت أبيها، لكنها ظلت دومًا تصده..

أتذكرين يوم أرسل إليها خطابًا وعندما قرأته خرجت إليه عند عودته من عمله لتمزقه أمامه في الشارع وتنعته بأبشع الأوصاف لأنه لحوح دون سبب، بشع الخلقة، لا تحتمل رؤيته حتى البغال.. ليتركها مجللًا بالمهانة؟ يومها سمعت والدته تقول لجارتها إنه يختبئ بغرفته باكيًا، وإنه أخبرها أنه قرر نسيانها..

كل من في حارتنا علم ما كان قد كتبه لها، حتى ما كتبه بعدها ردًّا على ما فعلته معها، أتذكرين؟ علمناه عندما سرقه أخوه الصغير منه وأحضره لكِ لتقرئيه له، كان يكتب بأسلوب جميل أمي، أتذكرين؟

«قالوا في الأمثال: (لو دخل كلٌّ منا قلبَ الآخر لأشفق عليه).. وأنا وصلت معكِ إلى أعماق العشق والوله والشغف، ولم تحاولي معي، أشفق على قلبك، صدقًا لا أبتغي تعذيبك حبيبتي، بهوى لا ذنب لفؤادك في وجوده بالمسكين قلبي، ليس ذنبك أني رسمتك أميرة عمري ونصيبي، فأنا من جنى على نفسه بالعذاب والشقاء والسهاد، بحبٍّ محكوم عليه داخل الروح والجسد بالفناء والرقاد، ارتميت في أحضان سراب مشاعر خدَّاعات، لهثت خلف حلم طائر في فراغ واهي الغفوات.

كنت أبحث عن حب، كعنقاء الخرافاتِ، ينتشلني، رسمت أميرة مظللة بالسواد تحيطني وتغمرني، عشقت السهاد في خيالات القصص والروايات، صرت أتسمَّع الأخبار والمغامرات المروية، فتوهمت حكايات أحداث فتوحاتي وانتصاراتي، رأيتكِ لي مناضلًا مخلِّصًا من عذابي وأنيني وآهاتي، أنتِ لم تخدعي قلب عاشقكِ البريء، يا حبا وهوى ملك الفؤاد بكل أدب واحترام، برأتك من ذنب قتلي بغرام ينتمي للأوهام.

من تعذيب روح بالهوى كل ما تمنته أن تلقاكِ، عشقتك حتى الثمالة دون قيد، وما زلت أهواكِ، أعلنت حكمي بأني من لُطخت بدمائه يداكِ، جبرًا وقسرًا حاولت باستماتة سلبك الحب والغرام، دون جريرة أو سوء منكِ، فأنا من حاول الإيهام.. بعشق إلى قلبك الصافي لا ينتمي، لأيام حلمت بكل ما أهواه وكنتِ أنتِ الشبيه الأنسب، فلتذهبي حرة أمان الله عليكِ، فلستِ السبب في هيامي بكِ».

ليحدث نفسه: آه «نايف»، أنت مجنون ضي العيون، العاشق لسحر الجفون، الضائع والتائه وسط نغم همس الرموش، المسبِّح تحت عرش عشق يغطي الكون، أنت.. أنت.. وأين هي منك يا مخبول؟ ظل يفكر طيلة الليل مستغربًا ما فعلت؛ فهو لم يقُل ما يُغضِب، تذكَّر ما كتبه علَّه يفهم سبب ثورتها؛ فهو غير مقتنع بأن منظره هو ما يجعلها تبغضه هكذا، لتقول له إنها تتقزز منه وتنفر منه كل شعيراتها.

دومًا كنت أرى وجهه عابسًا، تعلوه تلك النظرة البائسة التي تغطي وجهه، كثيرًا ما رأيته يودِّع والدته بصوت عالٍ، كما لو كان يتمنى أن تهمَّ واقفة لاحتضانه وتقبيله قُبلة الوداع مصحوبة بدعاء صافٍ كدعائك لي حبيبتي «حبيبة».

أعتقد أن بنظرته تلك كان يقول لها: أمي.. قبِّليني.. عانقيني.. اقتربي.. بحنانك اغمريني.. عن العالم بوجودك عوضيني.. لعلكِ تخرجين من قلبي وسنواتي مشاعر تقتلني.. واسيني عن أحاسيسَ استباحتني لتمزقني، بحمق تشاغل ليلي وتؤرقني.

أمي.. أحبتي فارقوا أحضاني، وعادوا بعد اعتيادي الهجران، ليظلموني.. بعودتهم لنسياني، بعد اعتيادي قربًا يواسيني، يا أمي عن أحزاني غافليني، ومن آلامي اسرقيني.

لا يهم كل هذا الآن أمي.. صحيح؟! لقد نفذ قضاء الله وقدره معه، أتعلمين؟ طبيعة عمله أن يحمل البريد إلى الضياع والدور المتناثرة فوق السفوح، ليعود في المساء مرهقًا معفرًا، كان يبدو من هيئته أن الملل قد خنقه.. بدأت مأساته الأكبر يوم كان يوصل البريد لمنزل عدنان السامري، تاجر الحبوب، رأى ابنته فنفذ حبُّها إلى قلبِه على عجل، جلست وتربعت، كان يخرج ليلًا لتقوده قدماه إلى حيث يرى من بعيد منزل حبيبته الجديدة.

يتنسَّم رائحتها ويتخيَّلها واقفة في شرفتها، فيستريح ويذهب لينام قرير العين مطمئن الفؤاد، وهو يقول لها: إليكِ أنتِ فاتنة كلماتي، أسرد أحاسيسي ونبضًا غمر أيام حياتي. حبيبتي.. الحب احتواء.. عطف.. شغف.. عشق.. حنان.. أمومة.. أبوة.. أخوة.. وصداقة، الحب دنيا وحياة، كان يتخيَّلها تستمع إليه بإعجاب وحب وتناديه كي تعترف بحبها.

أنت وليس سواك..

رجلي.. وآمالي.. عشقي.. وهواي..

أنت وليس سواك..

غرامي.. وهيامي.. حناني.. وأماني..

سكني، وسكاني..

أنت وليس سواك..

من بهواه امتلكني..

اخترته واستحقني..

عشقته وعشقني..

من له.. شبابي وعنفواني..

يا قمري ووجداني..

يا شمس هنائي.. وصوت غنائي..

أنت وليس سواك..

من روحه وقلبه.. مطلبي ومغنمي..

أنت وليس سواك.

* * *

نفتح كتاب ألف ليلة وليلة وتحكي «شهرنان» أسطورة ومغامرة جديدة، سنبدأ حكاية قديمة حديثة، عن فتاة أحبت يومًا شخصًا رأته ملاكًا، ملكته قلبها ومفاتيح خزائن الخيال بأحلامها، كما وهبته العقل بسخاء مهيب.

استيقظت لتجد القصر المهول والحصن المنيع قد سقطا تحت وطأة زحف أشباح السنين، أفاقت لتجد أنها تعيش بحب كالهواء، فراغ كبير يستعمر قلبها، تركت «شهرنان» لها الساحة الآن ومجال الحديث، لتدندن بألحان تُعبِّر عمَّا يجول بخاطرها الحزين، عمَّا نوت أن تفعله بمستقبل أيامها في غياب الحبيب، لتجيبنا عن أسئلة جالت وتجول بعقولنا عن حالها.

قالت: «نعم.. أحببت بكل جوارحي، عشقت حتى الثمالة، ثم انتهى ما كان وما حلمت به، ما توهمت وجوده لأعود وحيدة، فعُدت أُشهِرُ أسلحتي لأدافع عن حياتي من جديد، أكَوِّن وأشكِّل حائطَ صدٍّ أمام قلبي، أضعف وأمزق خيوط حبي المنسوجة داخل قلبي بيدي.

عدت أمارس مرونة تميز روحي لأعالج جراحي، أبدأ حياة جديدة خالية من شبح حبيب ضاع في زحام أيام مرَّت علينا، أطرد مشاعر كانت تغمرني.. ضعفت أمام صعاب الحياة، أبدأ بنقاء لأعيش وأولد حرة من مشاعر خدعت فيَّ السنين، أصفي نفسي من حقد على قلب ظلم قلبي الكبير.

عدت إلى حياتي لأكمل رسم حدود جدية تزينها، أختار أفكارًا متنوعة ومختلفة تغلف أسلوب حياتي الجديدة، أحدد أهدافًا أحققها، طموحاتٍ وآمالًا أقوِّيها داخل عمري وكل ما هو آتٍ، أتشبع بصفات تقوِّيني لمواجهة حياة صعبة قاسية.

أخفي بتجاويف القلب أمنية بقرب حبيب يحميني، حبيب يشاركني همي وضعفي وفتور لياليَّ؛ فلقد طردت خارج حياتي أساطير بأوهام خانتني، وساوس قهر وعذاب خنقتني، تغافلت عن ظلم وعتاب وملام.

عُدتُ لأُظهر للعلن حبًّا وجمالًا يحتويانني، طموحًا وأملًا في غد أفضل يملأ سنواتي، إشراقًا وتفاؤلًا ونقاءَ مشاعرَ تنير ضي عينيَّ، أخبئ بقلبي جوهرة حبي الكبير، أنتظر من أهبه هيامي وعشقي من دون حساب، أحلمُ بمن يملك زمام أموري، يُطمْئنُ قلبي أن الأمور ستكون دومًا بخير، شخص مهتم جواري ومعه لن يصيبني أي شر أو حتى سوء، إنسان هو لي وأنا له حائط صد وصمام أمان، حب وأمنية تحققت بقدرة رب رحيم متعال».

الآن نعود بعد أن سمعنا كلمات محبة عادت لتقاوم ظلم حب، نواصل لنقص قصصًا وروايات تملأ الدنيا وحكايات مستمرة، نعيش دومًا في انتظار قصة جديدة في خبايا طيات كتب «شهرنان» الأميرة.

* * *

 

«نايف» وحب العمر

اعتاد «نايف» أن يسترجع في خياله لحظة اللقاء الأول، ورعشة الحب التي تشبه دبيب النمل بأوصاله، كان يسلِّمها رسالةً من عمها، سألها: «شو اسمك؟»، أجابت بتلعثم: «فاطمة». واحمرَّ وجهها كما بندورة حمراء، سأل عن دراستها فأخبرته أنها في الصف الثامن من التعليم الأساسي، رآها جميلة أكثر مما رآها من قبل وهتف: ست من السنوات تفصل بيننا، يا الهي!

من يومها ظلَّ يفكر فيها وفي سبل الفوز بها، ويبحث عن خطابات عمها ليذهب إليها لإيصالها ورؤيتها.

قرر إعلان حبه لحظة استوقفته لتسأله عن البريد، وقتها هلل ورقص قلبه طربًا وكأن اليوم عيد، أخبرها بحبه بأن منحها وردة حمراء وخطابًا يفوح منه عطر اشتراه خصيصًا لهذا الأمر..

جرت من أمامه فظن أن الحياة قد ابتسمت له وأنها وقعت فريسة حبال غرامه، صيدًا ثمينًا داخل شباك غرامه المثير..

دخلت «فاطمة» غرفتها وأحكمت إغلاقها، خبأت الوردة، فهي أول وردة تتلقاها من رجل، صحيح لا يعجبها شكله لكن تعجبها نظراته المتتبعة لها، محاولته التقرب منها، إصراره على الاقتراب منها.. فتحت الخطاب على مهل وكأنما هو قنبلة شديدة التفجير، كانت تشعر بالرعب أن يُفتح باب غرفتها فجأة على الرغم من إحكام غلقه.. لتجده قد كتب لها:

حبيبتي الغالية «فاطمة»..

لكِ مني ألف تحية وسلام..

لا أعرف كيف أخبرك بحبي، منذ رأيتك أحلم بكِ بنهاري قبل ليلي، أنت يا امرأة ناعمة الخدين سرقتني، في عالمك أسكنتني، فهيَّا دوري كالنحلة ولنور حبك اسقيني، طيري وأنيري سمائي وحلِّقي فوق غيومي.

يا حورية وساحرة بلاد أوز شكِّلي أحلامي وآمالي، هلمي كمشعوذة ببلّور وعصا مسحورة أخفيني من عالمي، يا غجرية بشعر أهوج كأمواج الصحراء أحبيني، ومن غضب أيامي وحنين آلامي اسحبيني وانجديني، هيفاء البلّور من عسل عبيرك اروي أنيني. «فاطمة».. عيناك سحب ونجوم تجذبني، وسفنك أغرقتني.

أنتِ كائن معجون من نار العشق يلون جنون هواي، كماء منساب بين أشلائي وجنوني، ضميني وانسيني، حبك كرمالٍ متحركة، هيا من شر جنوني اشفيني، آه من أنفاسك، عاطرة ساحرة كالفلك تغمرني يا عيوني، فلتأتي يا سمائي وبالأرض جذرًا متأصلًا ازرعيني. «فاطمة».. أنتِ حياتي وغرامي فتقبلي حبي وأحبيني.

المغرم بكِ وعاشقك.. نايف المصطفى.

* * *

أسرتها كلماته، لم تتخيل أن هذا المسخ يمكنه كتابة خطاب غرامي كهذا، صُعقت عندما أدركت أنها باتت تفكر فيه، لا.. لا يمكنها هذا، ماذا إذا عرف والدها؟ سيقتلها بالتأكيد، ستسخر منها صديقاتها، ستكون مثار المزح بين زملائها ومدرسيها، هل تحب هي الفاتنة البهية هذا البشع؟ لن تسمح لنفسها بهذا مهما أرسل إليها، لكن...

لا مانع من مشاغبته ومشاكسته قليلًا، بحدٍّ يترك لها مجالًا للفرار، حينما تريد؛ لذا تركت له الباب مواربًا، فاعتاد أن يذهب ليقف أمام مدرستها صباحًا وعند انتهاء اليوم الدراسي، كلما رأته تصنَّعت الوَجل والخجل فتنظر للأرض، فيقتنع أكثر أنها تُحِبهُ وذائبة في بحر عشقه.

مرَّ عامان وهو يراقبها ويسعى خلفها من بعيد، كانت رسائله إليها لا تنقطع، بمعدل رسالتين على الأقل شهريًّا حينما تسنح له فرصة الاقتراب مدعيًا وصول خطاب إلى أبيها من عمها المهاجر إلى أمريكا.

منحها يومًا خطابًا مفعمًا بالحب ظلت ساهرة طيلة الليل تُفكر فيه، وكيف لو كان من شخص آخر أكثر وسامة وإثارة، لو كان فقط يُشبه زميلها «باسل»؛ فهو فتى شديد الصلابة والوسامة، دومًا مهندم مبتسم الوجه وبشوش، يعيبه فقط عدم مراعاته لها وإعجابه بها.

دومًا يتجاهلها كلما حاولت الاقتراب منه، تعشق لكنته الجنوبية ويثيرها سيره بشموخ وسط أصدقائه في المدرسة كما لو كان زعيم الفريق والمجموعة، تُحب مشاهدته يلعب الكرة معهم، تذهب مع صديقاتها يومي الأحد والأربعاء للباحة الخلفية للمدرسة لمشاهدة مباراتهم الدورية.

أمسكت بالخطاب وبدأت تقرؤه من جديد بصوت «باسل» لا «نايف»..

حبيبتي الغالية «فاطمة»..

لكِ مني تحية وسلام ودعوة خير ووئام..

آه منك يا ساحرة ساهية العينين، تتلألآن بجمال منير، وضَّاء جبينك هذا، شعرك يتموج كالبحر ليطير بكل الأنحاء، يا سارحة في ملكوت الخالق بحنين، عينان خلابتان للروح وللقلب سارقتان، سحرك يسحبني لغياهب خدين مثيرين، وجفون تتناغم مع شمس الكون، لقلبي تُثيرين.

آه منك كلك.. بعضك.. قاتلتي بسيفين: سيف شقاوة.. وسيف هدوء مستكين، ها أنت أملي وبكل عذوبة تجلسين متربعة على عرش قلبي، وكأن الكون تواضع لجمالكِ ملك يمين، يا فتاة سارقة للعقل كحد السكين، أفيقي للعالم، ومعي هل تتجاوبين؟! امنحيني أمان حبك، ساهية العينين، عاشق لقربك فهل تُخبرينني أنك تُحبينني وترغبينني؟!

عاشقك الأزلي.. نايف المصطفى.

* * *

كان أمر حبه قد شاع بين صديقاتها، كان مجال سخريتها هي وصديقاتها، تأخذ منه الرسائل ليُقِمن حفلة شواء خاصة على شرف قلبه المحترق بعشقها، هي حفلة نميمة عن «نايف» المتيم وحبه الأزعر لـ«فاطمة»، تلك البتول الناعمة.

في إحدى المرات ظللن أسبوعًا كاملًا يضحكن على رسالة خاطب فيها «فاطمة» واصفًا مشاكساتها له، متألمًا من جفائها في حبه، مطالبًا بأن تمنحه فرصة الاقتراب أكثر، ليحدثها عمَّا يسكن قلبه من غرام، يا لهن من قطط مشاكسة عشقن تعذيبه، بإثارة شجونه وحبه لمجرد تمضية الوقت والتسلية.

* * *

حبيبتي الغالية «فاطمة»..

لكِ مني تحية وسلام وعتاب يا منية القلب..

لِمَ تشاكسين قطة فضولي بكبرياء، تلاعبينها همسًا بدهاء أنثاكِ، تدغدغين مشاعري بحياء خبير لأتنمر وأتمنى المزيد؟! قرون استشعاري استنفرت لغيرتي عليكِ من كل الرجال.

يا حبيبة القلب، يا آسرتي.. انطقي.. اعترفي، أنتِ مع قلب طيب محترف الصبر والهدوء، لِمَ الغموض والسكون وابتسام الجبين هو ردك لكل ما أقول؟! أخرجي ما لديكِ، بوحي بسرك الدفين، أمعجبة أنتِ أم عاشقة مثلي بجنون؟! هل تجذبينني إليك وأجذبك كاشتعال الضوء، أم أني أتخيل وأعيش في الظنون؟!

حياتك حكمة وبالشقاوة مسجونة، عقلك خليط متجانس من هدوء وجنون أشعر بهما من نظراتك الحنونة، حبيبتي.. اعترفي وأريحي القلب الخجول من الظنون، أعاشقة أنتِ أم عاشق أنا وتلعب بي السنون؟ حياتي وغرامي.. منتظر منكِ خطابًا مختومًا بقبلاتك.

المغرم بكِ.. نايف المصطفى.

* * *

حبيبتي الغالية..

لكِ مني تحية وسلام..

يا كرة البلّور أراكِ تنادينني، يا ساحر سأخبرك أسرار عينيَّ، وببعض اللمسات سأمنحك سكوني، قبِّل بلّوري وأشعل فيَّ فضولي وسأبحث في الكون كمحارب مغولي عمَّا يبهجك، أقترب وبحبي لحسادك وعذالك سأبتر بسيف موالٍ.

«فاطمة».. أُحبك بكل ما بالدنيا، فأنتِ لي الدنيا بما تحوي وما تخفي، أُحبك بكل ما أعرف، فأنتِ المعلم والتلميذ بصفوفي، أُحبك بكل ما فيكِ، فأنتِ ضياء النفس والتسبيح والتنهيد.

أُحبكِ بكل ما فيَّ، أُحبك وكفى بحبك دنياي، يا من به ومعه يكون عيدي، ضميني بأهدابك لأتدفأ بخطوط كحلك الأناضولي، اكتبي وغردي يا عمري، انثري أحرفك وسط رماد المستحيل، ربما يفيق الغافلون، وتوقد بدمائهم شموع الغرام ونيران الحياة.

حبيبك الدائم.. نايف المصطفى.

* * *

عندما لم يجد أملًا في تلقي خطاب منها تعترف بحبه، تلمَّس لها العذر؛ فهي فتاة خجول تربَّت على أصول شرقية يمنعها حياؤها من تخطيها؛ لذا.. قرر أخيرًا اتخاذ خطوة شجاعة..

قرر الذهاب لطلب يدها من والدها، ولِمَ لا؟! فهو متأكد من حبها له كما يعشقها هو.. لكن عليه أولًا أن يُعلمها بالأمر كي لا تُفاجَأ عندما يخبرها والدها فتتلعثم، أو تُصدر تصرفًا يسيء والدها فهمه، لن يجازف؛ فهي شديدة الخجل وقد ترفض نظرًا لارتباكها.. ياللأسف.. كان شديد الثقة في حبها له، أرسل آخر خطاب حب ليُعلمها قراره؛ فهو لم يعد يحتمل بُعده عنها والاستمرار في حبها برسائل فقط.. يريد الاقتراب أكثر من نهر حبها المسكر.

* * *

غاليتي الفاتنة «فاطمة»..

أرسل لكِ قبلة على جبينك الوضَّاء..

أريد إعلامك صغيرتي بقراري التقدم رسميًّا إلى والدك لطلب يديك، لم أعد أستطيع تحمل بعدك عني، تلك القيود التي تفصل بيننا تخنقني، حبيبتي.. أعشقك وأتمنى أن يجمعنا بيت واحد لتكوني شريكة عمري..

بعينيكِ.. أغوص بلا سفينة، بلا مرساة أو مدينة، أهيم، أتوه، وأسبح بسكينة، أغني لأطوِّق روحك المستكينة، بعالمكِ.. تضمني قناديل عشقكِ، تتوه خيالاتي بحياتك، تتوهج روحي بكلماتك، عاشق لكينونة أفكارك، وأعيش بآهاتك، كالريحان والنرجس تخيلتكِ، حبيبتي.. في بحر عينيك غنائي، يا أمان وهدوء لدعائي، يا عشق وغرام بحياتي، «يحميك الله» هي كل ابتهالاتي. حبي.. أنتِ يا صفو قلب صبوح، معك الهدوء بالكثير يبوح، شقاوتي المختبئة من بؤس الأيام في البعد تنوح، كأميرة أحلام أتيتِ إليَّ بالروح، ليحيطني خيالك بجموح، بقربك تُشفى كل الجروح، حبيبتي.. تعبَتْ من الانتظار أرواحُنا، فمتى تلتقي نبضاتنا، تطيب آهاتنا وتجتمع قلوبنا؟!

* * *

«شهرنان» هلت تخلخل بأساورها العربية، وتثير الضجة المحببة للآذان بخلاخيل تُزَيِّن قدميها، يبدأ عزف ألحان شرقية وتحكي عن أنثى القمر، تلك التي لا تكفي حكاياتها اليوم وغدا أو حتى بعد غد والغد الذي يليه، فهي لها حكايات وروايات تملأ كتبًا للأساطير، هي أنثى قاتلة عنيدة شرسة من وجهة نظر قصائد أشعار حبيبها.

من خلف الأستار يهل صاحب حكايتها عاشقها، بِبُخار الروايات مغلف، وبعبق التاريخ مزين، يحكي عنها ويقول: هي ملهمتي في عالم الكلمات الذي نادانا ليحوينا، وببراءة سمائه أشار ليسرقنا، وببحاره أمر بإغراق مساوئنا، وببهائه جمعنا بأميرة حس وكلمات لتسحرنا، هي ملهمة كتاباتي.. بزهو أقرأ كلماتها، وبفخر أستشعر ذاتي تناجي ذاتها، وبكل جمال ألمس أحرفها تناوشني، آه منها، هي صديقتي الملهمة، صديقة بأكاليل الزهر تتوج أيامي، يا ملهمتي أعشق وجدانك، فهيا ملهمتي خبِّئي عينيَّ خبئيني، أخفيني حتى عن الزمان غاليتي.

حبيبتي الهائمة بين السحب، الطائرة بين النجمات، تحت سفح حمى الهرم لنا موعد ولقاء، برعاية «أبو الهول» وتعويذات القدم، لأضيء لك القمر شموعًا، وأسقيك الورود مُسكِرة، لأطعمك ربيع عمري شهدًا وعسلًا، وبيدي أعزف أهدأ الألحان لك أنتِ يا أنثى القمر.

حبيبتي.. تحكَّمي في مسار كلماتي لفرض سطوتك على أحرفي، فهي تدخلني لعوالم خيال اللامنطق بهيامي معك، والقوافي حبس يأسر أحاسيسي ويخنق داخلي العبارات، فأنا عاشق التطرف وبعثرة الأحرف والعبارات، فدعينا من تلك الأحاجي ولتمضي معي في درب اللاوعي بقصائد مغناة من القلب، قصائد مرسومة بشفاه أقلام الهيام، مزينة بورود السحب والآهات، لا تخبريني أنثاي أن أكف عن الغناء لأنثى القمر فهي أنتِ غاليتي العزيزة.

«شهرنان».. اسأليها، لا، أنا من سيفعل.. هيا أخبريني أنثاي.. كيف أحرر سفن عشقي الكامنة بين الواقع والخيال؟ كيف وشباك مرساها بيد قبطان السحاب، أنتِ؟ يا سلطانة خيال أتيتِ فجأة لإنارة ظلمات سمائي وواقعي، هيا أطلقي «راء».. رداء الخيال ليغلفني، و«جيم».. جمال وصفاء إبداعك ليثيراني، و«واو».. وفاء الكلمات لتُشاغب أحرفي، و«لام».. لحظ القصائد لأولد بها، و«هاء».. هيام المحب ليبدع إلهامي. هيا عبِّري وتكلمي بقصائدك وأعلني في الوجود حياة طفل شاغبك فأطلقت عنان روايات الخيال المنظومة بالأشعار لتكَوِّني رجولته.

أنثاي.. يا أنثى القمر، إني عاشق سكن وديانك ويتمنى نيل هواكِ ورضاكِ، «شهرنان».. لحِّني أغانيها، ساعديها، وأخبريها علَّها يومًا تتخذ القرار وتظل معي أنثاي أنا لأكون أنا سيد أنثى القمر وحبيبها.

* * *


صدام

ارتعبت «فاطمة» من الأمر، لكن طمأنَتْها صديقتها ونصحتها بإدعاء المفاجأة كي لا تُثير شكوك والدها، والتعلل - إذا شعرت أنه سيوافق - برغبتها في إكمال دراستها وعدم الزواج الآن.

في حين اشترى «نايف» قميصًا وبنطالًا جديدين وقارورة عطر برائحة التفاح، ذهب مبكرًا إلى منزله ولم يخبر والدته بما ينويه، بعد أن صلى العصر على غير عادته تبركًا، بدأ الاستعداد لحدثه الأكبر وهو خطبة «فاطمة»، استحمَّ كما لو كان يومَ عيد.

حلق شعره وذقنه، كما عريس ذاهب للقاء عروسه، «أنا فعلًا عريس».. هكذا قال لنفسه فرحًا، ارتدى ملابسه وذهب إلى المسجد القريب ليُخبر والد «فاطمة» أنه يريده في أمر مهم، سيقول له: لا يجوز أن نتحدث فيه هنا أمام الجيران، دعنا نذهب إلى منزلك عمي، هي فرصة يريد انتهازها للقاء «فاطمة»، تم الأمر كما دبر له.

وافق الأب واصطحبه إلى منزله لمعرفة الأمر المهم، ولو أنه ظن أن «نايف» يريد أن يرسل والد «فاطمة» لأخيه بالخارج ليجد له فرصة عمل، لم يُرِد أن يصدمه مقدمًا باستحالة إيجاد عمل لفاشل مثله، قرر أنه سيماطله حتى ينسى الأمر، كانت ابتسامة الانتصار تملأ وجه «نايف»، فسيرتبط بحب عمره أخيرًا، حتى إنه طيلة الطريق يتخيل «فاطمة» تحدثه: حبيبي أريدك «زيدون» الشاعر في قوته ورومانسيته بالتأثير، كـ«قيس» عاشقًا بعنفوانه وبحبك سكيرًا، لا شاعرًا مغوارًا ولا ساهرًا لنهار مرير، أبياتي لأجلك وأشعاري تنساب كالحرير.

أريد حبك ينطق بعنف بجبروت صمته، سحر غرامك بنظرة عين، أريد لمس قوته، بشفة حانية بأفعال نارية قلبي أحييته، بين ذراعيك شكلتني ولحبك صرت قتيلة، بكفيك اخترق جداول الحياة فيَّ وأَحْيِني، بلهيب أنفاسك اروِ عطش عمري وسنواتي، بدفء روحك الحالمة لنقضِ ليالينا، اعشقني بقوة جبروتك في الحب الحالم ومن الحياة اسرقني.

لنحطم العالم البالي وننتقل لعوالم الخيال السارح، أحبك عاشقي بكل حنان وقوة كفيضان غامر جامح، معك أنسى ما مر وما سيمر من عمري بحب واضح، أريدك حياة ودنيا لنصير معًا بالروح.

دخل «نايف» سارحًا في خياله إلى المنزل، ليجلس كديك منفوش واثق من حبه وحب «فاطمة»، طلب الحاج عدنان من أهل بيته الشاي للضيف، بدأ «نايف» يتوتر؛ لذا قرر أن يُشجع نفسه وألا ينتظر الشاي؛ فهو يريد شربات العرس فقال فجأة: عمي.. اطلب لنا «شربات»، فأنا لا أريد «شاي»، بل أريد الزواج من «فاطمة» ابنتك..

كان اللقاء عجيبًا يحكي ويتحاكى عنه كل الجيران، صُدِمَ والدها من طلب «نايف»، وما كان منه إلا أن طرده شر طردة.. صرخ والد «فاطمة»: يا لك من عريس وزوج ثقيل الظل.. أأزوِّج زهرتي وقرنفلتي اليانعة لك أنت يا بشع الخلقة، يا ضعيف الحال؟!

يا عمي.. أحبها، لينظر له الرجل شزرًا، مهددًا إياه بالكثير إذا لم يبتعد، طرده بعنف من بيته ليخرج وهو ينزف ألمًا وكراهية لفقره، ولوظيفته، ولوالد «فاطمة» الذي أهانه وطرده، قائلًا: ماذا تفعل أربعمائة ليرة – راتبه في مصلحة البريد – لك ولإخوتك الخمس ولابنتي؟! خرج ليجد الجيران تحلقوا يستمعون لإهانته، نظر إليهم «نايف» بضعف قائلًا لنفسه: أفهم هذه النظرة الحمقاء، تلك الابتسامة الخرقاء، لكني سأتعمد التغابي، كي لا ألوِّثَ روحي بآثامكم البغيضة.

ماذا تقول «نايف»؟ تعلم أن «عدنان» مُحق؛ فهو ينتظر ممن يتزوج «فاطمة» الكثير، ولا مجال لموافقته عليك أيها البائس..

فكَّر بالسفر إلى الخليج وشاكسته آمال الهجرة، أحس بأنه ضعيف، قشة في مواجهة ريح عاتية، أو إعصار يكسر كل ما فيه.. أحلامه طالت ليبقى في النهاية عاجزًا أمام فقره.. لا نجدة أمامه إلا أحلام اليقظة وأوهامه الخاصة بنجاته من هذا الفقر المُدقع..

تساءل كثيرًا عن حال «فاطمة» بعد هذه الحادثة، هل علم والدها بأنها تُحبه؟! هل تسهر تشتكي للقمر مثله؟! هل تبكي بكاء قلب قبل بكاء العين كما يفعل كل ليلة؟! لِمَ لَمْ تحاول السؤال عنه وعن أحواله؟ هل فتر حبها له؟!

أسئلة كثيرة تراوده، يخاف أن يذهب لرؤيتها؛ فقد كوَّن فكرة أن والدها رجل شرير، لكنه ممتلئ حتى النخاع بالشك في نسيانها له ويظن أنها خانت عهد حبه..

قرر أخيرًا إرسال خطاب إليها.. يبثها عبره غرامه وعذابه بعد رفض والدها، تحيَّن فرصة واقترب منها ومنحها خطابه كما السارق؛ فقد خاف أن يراه شخص ويخبر والدها فيؤذيه كما هدده إذا حاول الاقتراب منها.

كان قد كتب لها:

غاليتي الفاتنة «فاطمة»..

حبيبتي.. كم أتعذب لفراقك!

يا حبًّا وهبته الروح ونفسي الشجية، فخان العهود وباع الروح الأبية، لا تعتقدي قربي محبة لروحك العصية، ولا تظني بعادي مبغضة لديارك المنسية، يا أنتِ.. العقل لعينيك تأرجح سعيدًا بهفواته، والقلب أرسل قبلاته محفورة مع دقاته.

روحك بفيض مشاعر دكت لي الحصون، فاستسلمت نفسي متغنية بأسمى المعاني، لأجلك دون مشقة نُكِست الحبيبة راياتي، فأنتِ الحبيب المحتل بنعومة لأسوار مدينتي، لكن لماذا؟

دهست خيولك بخيلاء رياحين وزهور حبي؟ أحرب الإفناء مكافأة حبك لإحياء قلبي؟ أيقظتِني على طعنات حسامك بروحي، شردتِني وحيدًا لأكابد غدرك وجروحي، حنانَيكِ قاسية الطباع المغتالة لحبنا الوليد، رحماكِ أنتِ، كيف وافقتِ على اختلاف دروبنا؟! يا حبًّا وهبته الروح.. حنانيكِ.

عاشقك المهووس «نايف».

* * *

لكنه عدَّل الخطاب وكتب آخر، بعد أن رآها واقفة مع «باسل»، زميلها وجاره، تضحك ويبدو عليهما الانسجام الشديد، لم يوقعه كعادته، عندما أشار إليها وناداها لم تُعِره اهتمامًا، اقترب منها فأشارت بكل بساطة أن يتركها لشأنها، وعادت لتضحك من جديد مع «باسل»، ابتعد وجلس بالقرب من أسوار المدرسة يقرأ خطابه قبل أن يمزقه.

* * *

غاليتي الفاتنة «فاطمة»..

حبيبتي.. كم أتعذب لفراقك!

حبيبتي.. كان أمل الاقتران بكِ مصدر أماني في الحياة؛ فأنا الجنون الهادئ بغيابك، المجون المضفر بعباءتك، الحب المبتور بجفائك، العشق المنتحر على عتباتك، دونك الوحدة والشقاء، لك الحنين والانتهاء.

أنا النجوم الوضَّاءة في سمائك، صوت وألحان غنائك، أنا.. أنتِ يا مفارقة، هل بسهولة هكذا استبدلتِ حبي؟! آه يا هوى، كلنا فيك عشاق، ولحبٍّ ضائع نتغنى ونشتاق، نتمنى معك دومًا للزمن استباقًا، علنا نجد الحبيب باقيًا! هيا يا عشاق الهوى..

فلتشنقوا المشاعر، ولتحرقوا طبول الغرام، انسفوا عيون بيوت الهوى.. مزقوا الوسائد، وحبيب قلبي الكتوم.. اقتلوه!

حاكموه.. فلقد اختار نفيي لغياهب المجهول.. طلب الابتعاد ببساطة ويصر عليه! طلب الابتعاد وابتعد! آه يا هوى.. وآه ثم آه منك حبيبي.

عاشقك المهووس «نايف».

* * *

عاد إلى منزله يشعر بالخذلان من شتى الأنحاء، يتساءل: أعيبي أنا أم عيب الجبناء؟ لم أطلب إلا أن يكونوا معي صرحاء، فلِمَ التجني والظلم بتبسم البلهاء؟ آه.. كم يتعب القلب من حركات الحقراء!

عاد «نايف» بعد فترة اكتئاب استمرت يومًا ونصف يوم ليمارس عمله؛ فمثله غير متاح له رفاهية الاكتئاب، ذهب علَّه ينسى ما أصابه، كان قد حفظ الدروب والمدقات الجبلية الوعرة بحكم عمله موزعًا للبريد، تلك التي تختصر المسافات بين القرى الجبلية في الجنوب.

فقد اعتاد اختراقها بدراجته متجنبًا الأسلاك الحدودية والألغام المرشوقة المكتوبة بالعربية والعبرية، خلال رحلته اليومية لتوزيع البريد..

اعتاد التطلع إلى الأزهار والشجيرات الصغيرة التي يمر بها، الشجر الباسق وسط سفوح الجبال، أحيانًا يتخيَّل الأسلاك الشائكة تحدثه لتسأله عن أحواله مشفقة عليه وعلى حاله البائس في عالم البشر..

«نايف».. أيها المنسي بين الدروب، على قارعة الطريق تموت وحيدًا، تهرب من ظلم عليك مكتوب.. فتحتضنك عناقيد القسوة بخفوت، تلتمس من أشباح غباء الهروب.. فتصيدك بقيود قنابل الصوت.

تعيش وحيدًا في هذه الحياة مغلوبًا، فيهديك البشر القهر حبات توت، تتلمس رفقة الأصحاب.. فيشملك الغروب، تحتضن الحنان وتطلبه.. فتضمك شباك العنكبوت، تنادي المجهول ليحن عليك.. فيجيب السكون وتذوب، على الرغم من ذلك..

تعيش متفائلًا بعصر الصمت، تعلن أنك عن الغرام والعشق أبدًا لن تتوب؛ ففي قصور الخيال الحب أبدًا لن يموت، وبما ستكون به موعودًا.

كان قد اعتاد تجنُّب الطرق التي تقرِّبه من منزل «فاطمة» أو مدرستها؛ فذكراها تثير في نفسه الشجون، يشعر بأن سكين حبها يمزقه إربًا كل يوم، يتخيلها أمامه في أي مكان يذهب إليه، كثيرًا ما خاطبها ليشكوها إليها ويشكو حاله بعدها إليها..

كان يقول لها: تقابلنا على دهشة وأفراح.. وصارت ذكرى غرامنا جراحًا، تناجينا على عشق بلا أوجاع.. وصار مصيرنا متشابكًا مع الوداع، تهامسنا على صبر يعقبه لقاء.. وصار ما يجمعنا خيوطًا من ابتلاء، تواعدنا على حب وأمان.. وصار موعدنا فراقًا وعتابًا.

تصافينا على النسيان.. وصار لقاؤنا هجرًا وحرمانًا، انسجمنا على بحيرات أحلام.. فصارت هباء.. وذر أوهام، تقابلنا.. تناجينا.. تهامسنا.. تواعدنا.. تصافينا.. وانسجمنا.. وصارت أحلام مهشمة ما يجمعنا، سرقتنا الحياة لتؤلمنا.. فقد افترقنا.

ظل الحال كما هو حتى أواخر 1970؛ حيث تبدلت حينها مشاهداته اليومية، وأدرك وجود مستجدات جديدة؛ حيث صادف في إحدى مأمورياته الصباحية مجموعة من الفلسطينيين يستطلعون تحركات الإسرائيليين على الحدود بنظارات الميدان، ويرسمون خرائط لنقاط المراقبة، فزعوا لرؤيته فاستوقفوه: يا أنت.. قف!!

* * *

«شهرنان».. من هذه الصامتة؟ خبرينا عنها! إنها صبية مليحة ناديها أو عنها خبرينا..

«شهرنان» مجلجلة تقول: اسمعوني.. وجه باسم باستحياء وهدوء جاذب للناظر، لكن مَن منا أدرك المختبئ خلف قناع هدوء بادٍ، خلف برودة مشاعر وتحكم صارخ بقسمات وكلمات تُنطق؟ هناك هدوء وصمت قاتل يعم الأرجاء، سكون غلَّف كل الأنحاء، برودة كلمات وأحرف ضائعة، خيال فاقد للوعي بصحبة خفوت يُعمي التفكير، شلل أصاب خلايا مخية توقف إبداع الكتابات.

رومانسية مفقودة وأحاديث تائهة، حب بالزيف والخداع اتصف، حب خَلَّفَ موتًا مريعًا لآمال وأحلام كانت سارحة في الكون بنقاء وصفاء، طفل وليد يَشبُّ ويَكبرُ وفي طور شبابه اغتيل بتعَنُّت قلب قاسٍ، خيانة ثقة ليُطرَح أرضًا دون ذنب جناه، تراب أُهيل عليه ليوأد ويدفن ناظرًا لقاتله بابتسامة حب وهيام على الرغم ممَّا كان، مُستوعبًا لجميع أحداث قتله، لكن دون إرادة لرد الأذى أو حتى إطلاق صرخات الاعتراض.

وجه تغطي محياه ابتسامة بِشر وترحاب بقاتل يصعب على القلب إعلان كرهه، الإقرار بسلبه ما منحه من سلطات بحجة غرام وهيام زائف، تخنقه أسئلة طائشة هنا وهناك تبحث عن إجابات غير موجودة إلا بجعبة قاتله، جروح نازفة لا تلتئم لتئن الروح منادية ربًّا كريمًا يحفظها من ظلم وضياع لا تدري كنه فاعله.

نعم، ذاك الوجه الباسم بريء القسمات، الرزين الأفعال بحكم الغير، المُعلن عن هدوء يجمل ظاهر القسمات، يفشي عن مراجل أسئلة تغلي بحنايا تتعذب لفراق وهجر وخيانة، باسم هو على الرغم من جراح تقصمه، لكن تفضحه أحيانًا عيون ممتلئة بحزن دفين، قد تشي في بعض الأوقات ابتسامة مقتضبة مبتورة الأركان تُخفي أكثر مما تعلن، تبدو فرحة وبسعادة وبشر تنادي، لكن حقيقتها الأطراف باردة كبرودة تغرق قلبًا بنيران روح غاضبة هائمة في ضياع وفشل محاولة نسيان ما كان، وسط جهل الخوف مما سيكون.

نعم، هذه المُقبلة على الحياة باستماتة، الهادئة، وهذا ما يغمرها ويملأ روحها ويريد إغراقها، قتيلة حية منها كثيرات بهذه الدنيا لا نشعر بهن، يتنقلون بين بشر أحياء كظلال سوداء تظهر بمرايا الأيام بيضاء، تمر كأشباح هائمة متجولة في فراغ يحوي دنيانا الفانية، فراغ يحوي أخلاقًا وأفعالًا مختبئة تظهر على استحياء، فراغ يحوينا جميعًا موتى وأحياء، دوامة تغرقنا بحياة دائرة، لنحب ونُخدَع أو نَخدَع، نطمع ونرضى لتضيع أحلام وتبنى أخرى.

نعم، هذه الباسمة بريئة الوجه والقسمات، وهذا ما يجول بخاطرها، ما يعتمر بداخلها صباحًا ومساء، ما يؤرق ليلها ويُسَلي وحدتها، يقتُلها أحيانًا لتضيع بوحدة خانقة، لكن دومًا لا ينتشلها منها إلا لجوء لرب قادر ورحيم مالك لأمورنا.

* * *

 

بداية التغير

فزع الفدائيون لرؤيته فاستوقفوه، وانهالت الأسئلة عليه يستفسرون عنه وعن سكان المنطقة، وأماكن الاختباء لمراقبة الكيان الإسرائيلي، وكيف يمكنهم اجتياز الحدود ليلًا وغيرها الكثير والكثير من الأسئلة..

لكن «نايف» لم يُعِر هذه الأمور انتباهًا من قبلُ ليستطيع سبر غور أسئلتهم، هو يكره السياسة والخوض فيها، بل يجهل سبب الخلاف بين العرب وإسرائيل.. لكنه يتذكر مقولة والده وهو طفل: «هذه الأسلاك قاتلة، فلا تغامر وتقربها».

شب وقد رسخت بداخله مخاوف الحدود والأسلاك والرصاص، بعد ذلك اعتاده الفدائيون الذين يجوبون الجبال قرب الحدود، ليراقبوا ويسجلوا ويحللوا كل ما يرونه، كان يسأل نفسه: لِمَ يقومون بكل هذا؟! لم يستوعب أبدًا القضية، أو كيفية التضحية والموت في سبيلها.

كل ما يعلمه أن هناك طرقًا أخرى لم يكتشفوها بعدُ.. سلكها هو بعيدًا عنهم حتى لا ينغصوا يومه بأسئلة لا تهمه أو تفيده بشيء.

خرج بأحد أيام ربيع عام 1971 ببريده مستمتعًا بالزهور البرية التي تنبت في الأحراش بريًّا، فوجئ بشخص أكبر عمرًا من الفدائيين الذين اعتاد رؤيتهم؛ فهو يقارب الخمسين، يجلس على العشب متعبًا.

يبدو أنه جلس محاولًا التقاط أنفاسه، وبجواره حقيبة سفر كبيرة، كان منظرة غريبًا وسط الأحراش المقفرة هذه، لم يهتم وقرر استكمال طريقه مدعيًا أنه لم يرَه، ليتوقف فجأة على صوته:

أنت.. يا ساعي البريد.

نظر إليه «نايف» باستغراب، وأجابه:

ماذا تريد؟ ثم ماذا تفعل في هذه المنطقة المقطوعة عن البشر؟!

الغريب:

تعال هنا، متعب ولا أستطيع الوقوف، فهلا لطفًا منك اقتربت أنت وجلست معي قليلًا.

ذهب وجلس جواره متضايقًا وبدآ يتجاذبان أطراف الحديث.

* * *

«شهرنان».. منادية فتاة باسمة، قائلة:

هيا اقتربي.. قُصِّي علينا سر ابتساماتك الزاهية، يا أنتِ.. أشركينا قصة غرامك التي تبدو متفائلة..

تنادي الفتاة وتقول:

حبيبي تعالَ نلتقِ في عالم آخر، ليجمعنا في ميعاد ثابت كل مساء، نجتمع لننسى الدنيا، ننتقل بأحلامنا لعالمنا الساحر، الكائن خلف السحب وخلف حدود سماء الدنيا، المزيَّن بنجوم وكواكب لامعة، ومعطر بشهد الملكات وشرقيات العطر.

لنشرب فيه قطرات ندى الحب ونطعم لقيمات غرام الحور العين، نسعد بحياة وحلو لقاء وتخطفنا أحاديث متبادلة، وتغطينا شهوة همسات وبسمات، لنثير جنون الصمت بعذب مناجاتنا، نداعب هدوء الكون الغافل بزخرفة حروف هوانا العامر بزهور يانعة.

حبيبي.. تعالَ انقلني بعباراتك لدنيانا الخالية من هموم الكون الغافل، بكلماتك أدخلني قصيدة عشق صوفية واتركني أتجول بحناياها، لنرقص ونغني ونتهامس همس عيون محبة عاشقة، لتضم يديَّ بأبياتك وتسرقني لدنيا الأفراح.

موجات نبرات صوتك أسرتني في أمان دنيا أشعارك الحانية، احضنّي بهدوء لمسات نغمات أبياتك، وهدهد مسامعي بهمساتك الناعمة.

حبيبي.. يا طهر ملأ حياتي نقاء وصفاء، يا بياض الثلج بحياتي وسموي عن عالمنا الفاني، لنعلُ فوق هموم وأزمات تقتل براءتنا، ولنبتعد عمَّن نظراتهم فارغة وساهون عن جمال خلق الله، سأجمع نجوم الليل لأصنع قنديلًا بلون النرجس يدفئنا، ومن أمواج البحر غطاء قرنفليًّا ساحرًا يخفينا، ومن أهلك وخلانك سأكون سارقة لأجفانك.

اقترب وكُن لي يمًّا يغرقني بين ثناياه في ملذات صفاء الكون، نسبح في بحار نعم الله وننهل من حبه لخلقه ونوزع الفرحة بسعادة، لنطلق دعوة حياة وسعادة في دنيا بشر رغبتهم عيش حياة حقة. حبيبي.. هيا لنأخذ فرصتنا في الحب بنقاء في دنيا تسرقنا من أنفسنا قبل أحبتنا.. هيا حبيبي، تعالَ لنعيش دعوة حياة، فهؤلاء البشر كشفوا غرامنا من ابتسامتي الزاهية.

* * *

 

«زياد»

أخبره «زياد» – كما ادعى – بأنه تاجر جوَّال فلسطيني يبيع البضائع المهربة الرخيصة، وفتح حقيبته وأخرج منها ساعات وولاعات وأقلامًا، وحاول إقناعه بالشراء منه؛ فهي جيدة الصنع زهيدة الثمن.

لاحظ «نايف» فعلًا جودتها ورخص سعرها. وبما أنه ابن تاجر وحاليًّا يمر بأزمة طاحنة ويبحث عن مخرج، فقد عرض على «زياد» مشاركته على أن يأتي في الغد بثمن البضاعة.

بدأ التاجر في الاستفسار عن أحواله المعيشية؛ فهو لا يريد خسارة بضاعته، وعلى «نايف» أن يعذره؛ فالأمر لم يعد آمنًا هذه الأيام، أخبره «نايف» أنه يقدِّر تصرفاته وشرح له تفاصيل حياته، حتى إنه قصَّ عليه مأساة حبه «فاطمة»، ورغبته زيادة دخله كي يخرج من دائرة الفقر المدقع التي يرسخ في رسن قيدها.

سلمه «زياد» السلع، وتواعدا – بكلمة شرف وعهد رجال – على الالتقاء مجددًا بعد أسبوعين في المكان والوقت ذاتهما، لصعوبة اجتياز «زياد» الحدود كثيرًا؛ لذا كان اللقاء بعد أسبوعين مناسبًا لكليهما، انطلق «نايف» سعيدًا بصفقته، ضامنًا أول أرباحه المؤكدة، هلل فرحًا بمكسب جاءه سهلًا مريحًا، وهو جالس يضع ساقًا على ساق، خاصة أنه لم يتكبد أي شيء في الحصول عليه.

ذهب إلى سوق صيدا الكبيرة، باع بضاعته بثمن خيالي لم يكن يتوقعه. جلس في غرفته ليلًا يحسب مكسبه ويفكر فيما سيكسبه مستقبلًا وكم سيجمع خلال أشهر قليلة، كادت سعادته توقف قلبه وهو يتخيل قدرته على الذهاب إلى والد «فاطمة» لطلب يدها مرة أخرى، بالتأكيد سيوافق هذه المرة بعد أن يصير من ذوي الأموال والتجارة، سيكون ندًّا لها ورأسه برأس أبيها.

لذا، بدأ ينتظر اللقاء التالي بكل سعادة، وكأنما سيأتيه بثروة كالبحر معه، ذهب إلى المكان المتفق عليه قبل موعده بساعة من فرط إثارته وتشوقه للمكسب السريع، جاء رفيق تجارته يحمل حقيبة أكبر فيها أنواع متعددة مما يسهل بيعه بأسعار أعلى بكثير مما يعطيه «زياد» بها، شرح صدر «نايف» بشدة، تحاسبا وانصرف كل لحال سبيله منشرح الصدر بما كسبه..

في أثناء العودة قال «نايف» لنفسه: «سأطلب من (زياد) أن نلتقي مرة كل أسبوع بدلًا من أسبوعين، لم أطلب منه هذا هذه المرة، لا يهم، سأفعلها المرة المقبلة»، نفدت بضاعته سريعًا، وكان الطلب عليها متزايدًا بشدة لجودتها العالية، كاد يُجن عندما نفدت بضاعته مبكرًا هكذا وما زال هناك وقت كبير قبل موعده التالي، ما أثار أعصابه أكثر أن ألحَّ عليه تجار صيدا في طلب المزيد، حتى إنهم عرضوا عليه أثمانًا أكبر لبضاعته. نقود كثيرة، مكاسب رهيبة سأحققها، أين أنت يا «زياد»؟ هَلُم سريعًا!!

بهذا المعدل سأصير ملك زماني، وسأشتري لـ«فاطمة» الياقوت مهرًا، وأقدم لها الزمرد في العرس، آه من الأحلام الممزوجة بالأوهام، وآه مما نتوقعه ونحلم به لحظة اصطدامه بالواقع..

استيقظ على صوت والدته تخبره بأن «فاطمة» قد خُطِبَت، ثار عليها مكذِّبًا، تركها وانصرف خارجًا من المنزل، لكنه عاد سريعًا ودخل غرفته وأغلقها على نفسه، فلم يجد في نفسه الرغبة في الذهاب إلى عمله بعد هذا الخبر المشئوم، كتب خطابًا ليرسله لها، لكن مزَّقه في النهاية؛ فهو لا يجرؤ على مواجهة أبيها إذا علم بأمر الخطاب ووجد أنه لم يعد هناك جدوى لذلك.

* * *

«فاطمة».. هل حقًّا وافقتِ على غيري؟ كنت أظن أن حبك نهر يرويني فاكتشفت الآن أنه بحر أغرقني!! من أنتِ؟ لم أعد أعرفكِ! من قدر على نيل حبك الشفاف؟! لم يبدُ بنظري سيد الهلاك جاء ليسرقكِ مني؟! متى يلين قلبك السياف فاطمتي؟! أهناك من سحركِ لتُعلني به انهيارًا وانحرافًا عن حبي؟! من يزرع الورود بصحرائك؟! وهل جذبكِ بدموع حبه الجزاف مثلي؟!

من نثر الفرح بدفاترك.. ليحتويكِ قصة وغلافًا؟! من زرع قصائدك بوديانه.. لينقذ أنهارك من الجفاف؟! هل سيبقى دومًا عنيدًا.. ليزرع زهور حبك بسنواته العجاف؟!

قتيلك «نايف».

* * *

اقتربت امرأة صارخة: «شهرنان»..

تلفَّتي حولك صديقتي وأخبريني.. أترين الدنيا بيضاء بريئة؟ فأنا يُتِعب قلبي كم التمثيل وخداع قلوب تحيط بأجوائي، قلوب في يوم كانت تنادي بحب وعشق لأنفاسي، أحقًّا كنتُ مخدوعة أم أنها غصبًا خدعت وخانت أيامي؟!

هويت يومًا قلبًا أهداني جراحات وآلامًا كثيرة تنغص يومي، تؤرق ليلي وتفتتني.. آه منها تنخر في عظامي بردًا صارخًا، أهدوني يومًا سعادة العالم والكون داخل برعم وردة حمراء نضرة تنير أحلامي، لكن ها أنا استيقظت منها لأجده كابوسًا بشع المنظر، أخطبوطًا يسرقني ويرميني في بئر حرمان للحب وغرام العشاق، عنكبوتًا ينسج بشباكه ليخنق روحي وحلو آمالي بالدنيا، قنديل بحر يتابع لدغات تزيد تحسس مشاعرنا من قهر غرام.

خداع متقن وتمثيل بجدارة لأدوار بريئة وكأنك أنتِ من صرتِ المجرم، أنتِ من خُنتِ وبِعتِ روحكِ لاستغلال حماقة غيرك بسهولة، لعب بمشاعر لتمضية أوقات سعيدة دون حساب لغيرك ومشاعره الفيَّاضة، خيانة أمانة روح أودعتك ثقة العالم ووهبتك نفسها حبًّا وكرامة، تمثيل وخداع دون حياء وصراخ عالٍ بأنها لم تقصد جرحكِ بل كانت تنوي قربك، لكن الله أراد بعادًا.

استغلال لحبك بعودة وادعاء براءة حتى بعد خيانة صارخة وغرور وتباهٍ واضح ببعاد، كأنك صرتِ كتمثال جلمود أو حجر صوان لن تشعري بضربات منهم قاتلة أو حتى تلميح بإشارات وكلمات تقتل في الحال، تدميركِ وترككِ دمية تلعب بها الدنيا لعبة إخفاء بوقاحة، استغلال وإيهام بأحاسيس سامية دون مراعاة لرب منتقم جبار.

أهُنَّا في لحظة في نظر من ظننا أنهم لنا الدنيا والآخرة؟ هل بسهولة يرون خداعًا وتمثيلًا منهم مجرد جرح بسيط ستطيّبه بضع كلمات واعتذار سخيف بمحادثة شاحبة الأحداث؟

آه يا قلبي من كم التمثيل والخداع بدنيانا! اصبري يا روحي فأنا وإياكِ مضطرتان إلى التعايش معهم، تحمل إثارة غيرتك وتفاخرهم بوجود آخر وإظهاره أفضل منك، بسبب ضعفك تستحقين ما نالك من غدر.. وأنت يا قلبي تجلد ومُر بأحداث رسموها بإتقان لتظهرك شخصًا مطالبًا بالحب ممن لا يرضى.

بل والأصعب أني الآن أصبحت المُطَالِبة الجريئة بعناد، أصبحت الساعية لخراب حب آخر أنقى وأشهى بغباء، اصبر يا قلبي وسيُظهر يومًا ربي الحق ويعوضك هجر وقسوة قلوب أحببتها، على الرغم من غدر ومحاولة انتقام من دنيا تشوه فيك دون حساب لمشاعر بني إنسان، كأنك تتحمل تبعات أخطاء غيرك ولهم الحق في رد عنف ما مَروا به فيك، اصبر يا قلبي وتجلدي يا روحي؛ فهي أيام وستمر وتلاقي ربك فيرحمك من شرِّ بشرٍ أتعبوكِ وظلموكِ.

* * *

 

ضياع «فاطمة»

خُطِبَت «فاطمة» لتاجر ثري من «الفاقورة» وأُعلن عن قرب زفافها؛ فزوجها ثري ولا شيء يعطله عن إتمام زيجته سريعًا.. ُطمت آمال «نايف» على صخره الواقع وفقره، بكى بحرقة سنين طوال عاشها حبيس عشقها، تحطم فؤاده كرهًا لها ولأبيها وللنقود وللبشر أجمعين؛ فهم من فرقوه عن حبيبة قلبه، سيندمون.. يومًا ما سيندمون، هكذا قرر بينه وبين نفسه..

قرر استكمال حياته متخطيًا آلامه، ذهب في موعده لمقابلة «زياد» عابسًا محزونًا بعد انتهاء فترة الأسبوعين أخيرًا، اللذين مرَّا على «نايف» كأنهما شهران لا أسبوعان، عندما استقصى منه «زياد» عن حاله ولم يبدُ محبطًا هكذا، أخبره بكل ما مر به وضياع «فاطمة»، حب حياته، من بين يديه وخِطبَتِها لآخر ثري..

ما كان من «زياد»، الذي يراه «نايف» صديقه الصدوق، إلا أن نصحه بنسيانها، وأن يركز في عمله حتى يجمع ثروة طائلة تغنيه عن كل شيء وأي شيء، وقتها.. وقتها فقط.. سيندم والد «فاطمة» على تزويجها لغيره، وسيغيظهم ويكيدهم جميعًا بزواجه ممن هي أعلى منها شأنًا ومكانة وحسبًا ونسبًا وجمالًا أيضًا.

حاول «نايف» استيعاب كلمات صديقه لكي ينفذها على الرغم من عدم اقتناعه بإمكانية نسيان «فاطمة»، ثم أخيرًا طلب من «زياد» أن تكون مقابلاتهما كل أسبوع وأن يضاعف البضاعة أيضًا؛ فالسوق مفتوحة على مصراعيها لهما، وحرام أن يضيِّعا من أيديهما هذه الفرصة وهذه الأرباح مؤكدة الحدوث.

تشبث «زياد» برأيه ورفض قائلًا: مستحيل يا «نايف»، إن الأمر في غاية الصعوبة، تعلم أنه على الرغم من أني فلسطيني من عرب 1948 فإن حملي لهوية إسرائيلية وإقامتي في إسرائيل يمثلان عائقًا كبيرًا أمام عبوري الحدود؛ فهي مغامرة كبيرة قد تكلفني حياتي، وأنا رجل كبير على هذه المجازفات «نايف»، ألا تُدرك المجازفات الكثيرة التي أمر بها لقدومي إليك مرة كل أسبوعين؟ كيف أتغاضى عن كل ذلك لآتي كل أسبوع؟ انسَ الأمر، صدقني هو أمر مستبعد لاستحالته.

كان رد فعل «نايف» باهتًا؛ فهو لم يستوعب معنى فلسطيني ويقيم في إسرائيل.. صُدم، لم يتخيل أن صديقه إسرائيلي، نظر إليه شزرًا للحظات، ملامحه تبدو عربية لكن شيئًا بداخله يحدثه بأنه يكذب في جزئية أنه فلسطيني من عرب 48؛ فهم قبلوا مجبرين العيش بإسرائيل، لكنه يعلم أنهم فعلوا ذلك للحفاظ على الوجود الفلسطيني في الأرض كي لا تطمس هويتهم، لا يوجد منهم من يلمح بأنه إسرائيلي، سرح قليلًا ثم حاول تدارك الأمر؛ فهو لم يجد في قلبه غضاضة لهوية «زياد»، لم يشعر بالنفور منه لذا لم يهتم.. بِمَ سيفيده ذلك؟ بالتأكيد لا يهم..

طالما أنه يستفيد ويتكسَّب عن طريقه، فلا مانع من تعامله معه والاستمرار في علاقتهما التجارية، فما بينهما مجرد تبادل مصالح فقط دون حديث عن السياسة وشعابها.. هو يجلب بضائع زهيدة الثمن من إسرائيل ليبيعها بثمن أعلى بلبنان، ويتقاسما الربح.. تجارة بلا رأسمال تدر عائدًا مجزيًا. ما الضير في ذلك إذًا؟ لا يهم إن كان «زياد» فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا.

تعمَّد ألا يرتبك وحاول أن يبدو متماسكًا متفهمًا للموقف، كما حاول أن يكون طبيعيًّا، وليتأكد من أن صديقه «زياد» لن يقاطعه بعد أن أخبره أنه إسرائيلي.. أعاد «نايف» عرضه باللقاء أسبوعيًّا؛ ففي قدرته ترتيب مكان أكثر أمنًا، يمكنهما اللقاء فيه، دون أن يلحظهما أحد؛ فهو يعلم من الدروب المخفية أكثر مما يعلمه حراس الحدود ذاتهم..

* * *

«شهرنان».. يا حورية من السماء.. أخبري حبيبي، أنا في خطر وهو أيضًا، وهذا إنذار مسبق علَّه يسامحني ويعود، من عاشقة اللعب الخطر بين متاهات كلمات تحوي مصائد للضعاف أناديه، أوصلي إليه صوتي لأخبره، حبيبي تعالَ واستمع.. الحياة بلا هدف من دونك.. أنا حبيبتك العابرة لأوقاتك لأوزع ابتساماتك بهدوء، لأمنحك سعادة كون وردي أزرعه بقلبك وحياتك، عُد لحياتي، أعتذر إليك يا مالك عمري، بعودتك سأقيم حفلة بين النجوم.

سأرتدي فستانًا أنيقًا، وبطلَّة كحلٍ مرسوم، ولمسة أحمر شفاه، وقليل من ضربات فرشاة بالحمرة على خديَّ، ونفحة عطر ناعم العبير، أظهر لحبيبي الغضوب وأهدئ الأجواء بأقاصيص وحديث معهود، وعندما يعلن استسلامه أمام أسلحتي الموجهة، وعليها سلاحي الساحق الماحق، نظرات العيون الهائمة المصوبة لعيون وقلب حبيبي حلالي زوجي الغالي، عندها.. سيرفع راياته البيضاء مقدمًا اعتذاره عمَّا بدر مني أنا من خطأ؛ فحبيبي مسامح نقي القلب والسريرة يسامحني ويمنحني العفو وصكوك الغفران لجمال وصفاء روحه. حبيبي الأثير.. مالك العمر والروح.. مليكي ومالك قلبي الوحيد..

معك سأطير بين شباك الهوى في السماء، يا حوريات البحار سحري حبيبي كائنًا خفيًّا لنهرب من نظرات الحياة، يا شبكة منسوجة من روحي وخيالي.. خذيه لنسبح بين النجوم، ازرعينا أمواجًا بين البحار، أعيدينا لزمن لا يعيش فيه سوانا أنا ومالك قلبي وضي عينيَّ. «شهرنان» ل تستطيعين جمعي أنا والحبيب؟

* * *

لقاء دهاء

كان «نايف» يُسحب مُغيبًا عن حجم المأساة إلى بئر الخيانة، فهل ضيَّعته قسوة الحياة، أم جهله بما هو فيه، أم تناسيه ما كان وما يكون؟ فضَّل اجتياز الطريق الأسهل توهمًا في النجاة؟! هل سيتخبط كثيرًا حتى يصل إلى الطريق الصحيح؟ هل سيصل في الأساس إلى الطريق الصحيح؟ هل يريد النجاة، أم سيجد من يأخذ بيده ليقف على طريقه الصحيح؟ فمن الغباء الارتكان بالثقة لقلوب وعقول تعوَّدت على التلون لإشباع غرورها بالتفوق والذكاء.

كمٌّ هائل من الزيف والتمثيل والخداع وقع «نايف» في براثنه، تتكسر الأوردة كزجاج مغشوش على أبواب قلوب أجادت هذا الغش كله، والمأساة أنها تتفاخر كأنما قد أجادت علوم الدين والدنيا، أقبلت على حدود السماء متباهية، كأنما هي آلهة للحب أو العشق لا سبيل إلى الفرار منها، ثقة خالية من أي مشاعر تسير بتفاخر وهي صماء جوفاء، وصل بـ«نايف» حد الغباء إلى أن صدَّق الزيف والكذب ونبذ الحق والصفاء.

صحيح بكل منا شر العالم، وخير وصفاء الملائكة، لكن من ينتصر؟ ومن يخسر؟ ما الذي نظهره للعالم؟ وما الذي نخفيه؟ من يحكمنا وسط غيمات تناقضنا؟ هذا هو امتحان «نايف»، فهل ينجح؟!

على الرغم من غرابة كون الطريق القويم مليئًا بعثرات الماضي والحاضر، لكن الله موجود يساعد من يدعو، يرحم بمغفرة وعفو من تاه وسط شرور تعيش بتجاويف الإنسان، فهل، يا الله، من مغيث ينجد «نايف» من شر ذاهب إليه بقدمه؟ الأمل فيك ربي، أغثنا فقد ضللنا الطريق، أغثنا فها نحن نُغرق أنفسنا بأيدينا، أغثنا يا الله بنورك العظيم.

لم يضيِّع «نايف» إلا رغبةٌ دفينةٌ في عيش الحياة بحب وبراءة، عشق دون خسارة روحه بظروف يتخبط فيها بضعف، يتمنى ثقة متبادلة وفكرًا واضحًا واحتواء وتضامنًا يقربه من حب العمر.

* * *

اعتذر «زياد» بسبب تشديد المراقبة الإسرائيلية على الحدود، وخوفه أن ينكشف أمره، خاصة بعد العمليات الفدائية المتزايدة على الحدود، إذا قُبض عليه سيعاملونه كجاسوس إسرائيلي، خاصة مع هويته الإسرائيلية، وسيمر وقت طويل حتى يُثبت أنه مجرد تاجر بسيط يمرر بضاعته بهذه الطريقة، وقد لا يقتنعون بأنه فلسطيني من عرب 48، لكنه وعد «نايف» بالتفكير في الأمر، علَّه يجد طريقة ما بمساعدة «نايف» وخبرته عن الحدود وتلك المنطقة.

ابتلع «نايف» الطُعم؛ لذا انبرى مهاجمًا الفدائيين، وسَبَّ الفلسطينيين، هؤلاء الأوغاد سيدمرون مشروعي التجاري، كيف هذا؟ لا يمكنني السماح بذلك!! هل بعد أن تَذَوقت طعم المال والثروة الرائعين يَضيع مني ذلك كله هكذا هباء؟! سأحارب الدنيا كلها فلا يُمكِنني التنازل عن هذا كله..

ترك «زياد» على وعد بالتفكير في حل أو طريقة تساعدهما في تمرير المزيد من البضاعة المهربة؛ فـ«نايف» وُلد وتربَّى وسط هذه الأحراش، هو أدرى بشعابها ولا يوجد من يحفظها مثله؛ لذا أخذ على عاتقه محاولة إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة التي قد تتسبب في إيقاف نشاطه التجاري بكل ما يدره عليه من أرباح خيالية.

مرت الأيام تتلوها الأيام وهو يفكر في طريقة، ما زاد حنقه وحيرته هو غياب «زياد» ستة أسابيع كاملة، اختفى هو وبضاعته وثروته المستقبلية.

ظل يراقب الحدود علَّه يأتي، لكن دون فائدة.

توترت أعصابه، وبعد أن كان كما ناموسة صغيرة، تطير دون أن يلحظها أحد إلا إذا أحدثت صوتًا، تحوَّل كما زينة باب ثقيلة الظل كلما مر قليل من الهواء بها صدعت الجميع بأصوات غير منظمة، كان يثور ويعلو صوته لأتفه الأسباب، مما زاد من مشاكله مع والدته وجيرانه وزملاء عمله الذين لم يعتادوا منه الاهتمام بشيء أو حتى سماع صوته، لم يدرِ أحد لِمَ هو هائج دائمًا هذه الأيام.

كان يحدث نفسه كثيرًا قائلًا:

هل أعود مجددًا لذلك الفقر المدقع؟

لا يمكنني السماح بذلك! لكن ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟

الذَنْبُ ذَنب هؤلاء الفدائيين!!

هم سبب غياب «زياد» وبضاعته..

آه لو يختفون من هنا..

لِمَ لا تقبض عليهم الحكومة لنعيش كما نريد؟

هؤلاء الأوغاد أضاعوا أموالي وأرباحي..

ظل يتابع الحدود وقلبه يرتجف رعبًا من أن يُكشف، على الرغم من أنه يخفي دراجته المتهالكة بين الأعشاب الخضراء كي لا يلحظها الفدائيون.

هكذا أخبره «زياد» في أحد لقاءاتهما السابقة:

«نايف.. أخفِ دراجتك، لا تتركها هكذا، أتريدهم أن يلقوا القبض علينا ببساطة ويسوقونا كما الماشية؟».

«زياد».. هل ستأتي؟ ومتى؟ تأخرت عليَّ كثيرًا صديقي.

آه لو أستطيع عبور تلك الحدود واجتياز تلك الأسلاك لأذهب إليك علِّي أرى ما أصابك ولِمَ تغيبت عني هذه الفترة كلها!! لكن كيف وأنا لا أعلم حتى أين يقيم؟

كان دائم الذهاب إلى مكان لقائهما المعتاد فاقدًا للأمل، يتمشى هنا وهناك.. وإذا فجأة، لمح من بعيد شبحًا آتيًا باتجاهه ويقترب بخفَّة، ارتعب كثيرًا وهمَّ بالفرار..

لكن سمع اسمه ينادي به الشبح بصوت مألوف..

وقف وتَسَمَّع للصوت مرة ثانية وهو يعيد النداء عليه، تهللت أساريره لملاحظته، وأخيرًا انفرجت شفتاه عن ابتسامة، لتعود إليه روحه من جديد..

ها هو قد عاد «زياد» من جديد..

آه صديقي.. أين كنت؟!

انتظرتك لفترة طويلة، لِمَ اختفيت هكذا؟

ظننتك لن تأتي مجددًا..

فقدت الأمل وشعرت بالموت لغيابك!!

أخبره «زياد» أنه يعاني كثيرًا في تمرير بضاعته، ويحتاج إلى دفع الكثير من الرشاوى والعمولات ليمرره الجنود من خلف الحدود، خاصة مع العمليات التخريبية المتزايدة، وتصعيد الجنود الإسرائيليين على الحدود لاحتياطات الأمن.

نقاط المراقبة «نايف» زادت كثيرًا ولم أعد أستطيع المرور بسهولة.

كيف تتحرك أنت يا «نايف» بسهولة هنا بالجنوب؟

ألا تُعاني مثلما نفعل نحن؟!

كيف تعبر أنت من هذه الحدود؟ ألا تخاف؟!

أسئلة متنوعة وكثيرة.. الغريب أن «نايف» أجابها بتلقائية دون أن يستوقفه ضميره أو حتى حب الاستطلاع والفضول.

زاد في التفاصيل فوصف لـ«زياد» أساليب معيشة الفدائيين وأماكن وجودهم وتجمعاتهم، حتى الممرات ومدقات الجبال التي يسلكها هو وغيره، رسمها «نايف» لزياد بدقة على الورق بما يسهل الوصول إليها واستغلالها ليمر ببضائعه كيفما شاء..

حدَّد له مواقع الحفر التي يتخذها الفدائيون مراكز مراقبة نهارًا، لينطلقوا ليلًا أواخر الأشهر العربية المظلمة، مستغلين هذا الظلام الدامس أو ضوء الفجر الضعيف لقصِّ الأسلاك والتسلل إلى إسرائيل.

قال «نايف» لـ«زياد» إنه يعلمُ أشياء كثيرة.. هل أخبرك كيفية استقطاب الأشبال وتجنيدهم؟ أتعلم؟ سأخبرك أيضًا عن تدريبهم عسكريًّا على استخدام المدافع الرشاشة والقنابل في معسكرات مغلقة بالبقاع.

لديَّ الكثير والكثير من المعلومات سأخبرك بها جميعًا، لكن لا تنقطع عني مرة ثانية هكذا أنت وبضاعتك.. وبدأ السقوط الناعم..

* * *

«شهرنان».. اتركيني أنا لأخبرهم قصة حبي لأسأل حبيبي عمَّا فعله ويفعله بحياتي ودربي.. ففي ثالوث الغرام لا شيء يضاهي قرب حبيب، وحضن عاشق هيمان، وتغزل مغرم بكل وجد وحنان، وأنا أشتاق إليك حبيبي، على الرغم من علمي عدم جدوى اللقاء، فلا القرب يشفيني من وحدتي، ولا البعاد ينجيني منك حبيبي.

آه منك يا وجعي أنت، ويا صبر.. صبر قلبي على من فارق وأرسل صبره على صبري يصبِّرني، كأن صَبْرَ السنين صار دواء يُصبِّر من صَبره صَبر الصابرين، آه يا دموع من العين سالت وجفون على العزيز ناحت، متى الخلاص من حبيب يرى العذاب؟ حب رجل يحمل الواقع على عاتقيه ممزوجًا بتفاصيل حبك.. فلتخبرني حبيبي..

لِمَ أسكنتك بجوار الروح وشاركتك هواها؟!

لِمَ تأخذ مني أكثر مما تعطيني؟!

لِمَ أضعف أمامك وتستكين كل أجزائي خانعة لهواك؟!

لِمَ سامحتك؟ وهل سامحتني؟

لِمَ أحببتك بشدة؟ وهل بالمقابل أحببتني؟

هل ستعود لمملكتي؟

آه حبيبي.. الحب ضعف والقلب في الأصل ضعيف، والجسد منهك من خرف وتخريف، الحب ألم والروح في الأساس متألمة من قسوة الحبيب وظلمه، الحب جبروت وأنا إنسان ضعيف فكيف لي بمجابهة بحر أمواجه صقيع وثلج كثيف؟ تعبة وضائعة أنا ولا مفر، حتى صراخي سرقه المطر، ذهب مع الريح دون عتب.

لم يعد أمامي إلا أن أعجن شرايين قلبي بالتجبُّر، وبالقسوة أرسم صوري، لكن عدني ألا أراك؛ فبرؤيتك تسقط هالة عنفي وأعود وردة برية مزروعة أمام أبواب مملكتك، فمثلك أنت خُلق لتسقط أمامه المرأة دون إذلال وتصير في مجرتك ملكة الرايات.

لكن كيف.. وحبك دومًا فعل ماضٍ وحياة بلا أمل أو مستقبل؟!

* * *


سقوط مُرتَّب

تشجَّع «زياد» عندما وجد «نايف» يقدم خدماته ويتحدث باستفاضة وسأله عن المصادر التي جمع منها معلوماته، ليُجيبه «نايف» بفخر:

أعرفها من بعض شباب الجنوب ممن انضموا إلى صفوفهم، إنهم يحفِّزونهم بشعارات الجهاد.

فرح «زياد» كثيرًا حتى أظهرت ملامح وجهه سعادة غامرة لم يستطِع كبتها داخله؛ لذا وعلى سبيل المكافأة، بكل هدوء، أخرج حافظة نقوده، أخرج مبلغًا ومد يده إلى «نايف» به قائلًا:

هاك «نايف».. خذ، هذا ألف دولار مكافأة لك نظير ما أسديتني من معلومات قيِّمة.

كان مبلغ ألف دولار في السبعينات مبلغًا، عن حق، رهيبًا.

ألف دولار؟ ألف دولار؟.. ظل «نايف» يكررها داخل تجاويف عقله المريض.. لكن لِمَ ألف دولار «زياد»؟!

زياد: «نايف» حبيبي.. سأنقل المعلومات التي حصلت عليها منك إلى الإسرائيليين، وقتها سيثقون بي، ويسمحون بمروري بسهولة، وقتها أستطيع أن ألتقيكَ أكثر من مرة أسبوعيًّا، أبشر صديقي سنستطيع العمل بلا توقف بعد الآن.

استغرب «نايف» هذه الكلمات كلها..

فأعاد سؤاله: لِمَ هذا المبلغ؟

أجابه «زياد»: لأجل ما أخبرتني به، سأبيعه نظير مبلغ ضخم من الإسرائيليين «نايف»، ألا تُدرك قيمة ما أعلمتني به؟!

«نايف»: لا أفهم ماذا تعني! أتريدني أن أكون جاسوسًا لإسرائيل؟!

صمت «زياد» لبرهة ثم أجابهُ بكل خُبث:

ما منحته لك سأسترده ثانية، في إسرائيل يشترون هذه المعلومات بأعلى الأسعار صديقي، كما أن الأمر ليس تجسسًا؛ فنحن لن نؤذي أحدًا، هم فقط سيحمون أنفسهم بما سنخبرهم إياه، ويتقون شر الأعمال التخريبية التي يتولاها من يطلقون على أنفسهم فدائيين.

ألا تحب إسرائيل «نايف»؟

«نايف»: لم أفكر بالأمر، ما زلت لا أفهم!!

زاده «زياد»:

- أنا عربي مثلك، في الماضي كنت أكره إسرائيل، تربيت على هذا، كبرت الآن وفهمت أن كُرهَ العرب لإسرائيل ناتج من أنهم ينقادون وراء حكامهم المستبدين، الذين يُسيِّرون شعوبهم حسبما تكون مصالحهم هم، مستغلين السياسة والدين للوصول إلى أهدافهم في الحفاظ على رقودهم على كراسي الحكم، يريدون ضمان خلودهم كحكام.

هل قرأت في أي مذهب ديني آية أو ذكرًا لتحريم التعامل مع بني إسرائيل؟! لتعلم «نايف» أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية، الشعب فيها يحكم نفسه، ويملك بيده قراره ومصيره، يمكنه تغيير أي شيء حتى رؤسائه، عكسنا نحن العرب؛ لذا اخترت الإقامة بين ظهرانيهم وليس بين إخوتي من العرب.

«نايف»: ........!!

استمر «زياد» في حديثه، بكل دهاء وحرفية، مستخدمًا طبقة صوت ملساء كفحيح ثُعبان:

«نايف».. إسرائيل فيها حرية التعبير والاعتراض، يمكنك فعل ما تحب وقتما تشاء، وأن تقوم بكل ما تريد وقتما تريد، يمكنك الاعتراض حتى على الحكومة وأدائها دون أن يطالك منها أي أذى، أو تطارَد أنت وكل من يعرفك أو عرفك يومًا، أخبرني.. أتوجد دولة عربية يحدث فيها هذا؟! بالإضافة إلى أنه يمكنك أن تُحب من تشاء، لا يمكن لأحد رفضك لأنك أقل منه ماديًّا.. ما دام هناك حب تُلغى الحدود كلها.

أتعلم؟ أنا موظف ببلدية «نهارية» القريبة من الحدود. أشتري هذه البضاعة من «عكا» وأبيعك إياها في لبنان لزيادة دخلي، هناك أنا حر في أن أسعى إلى زيادة دخلي وأن أعيش ميسورًا لا ينقصني شيء، هذا حقي في الحياة، تكفله لي الدولة، ألا تريد أنت أن تعيش ميسورًا؟

أخيرًا نطق «نايف» قائلًا: نعم أريد، بالطبع أريد ذلك.

* * *

ها قد عُدنا من جديد لنسمع حكايات «شهرنان» لنقول: يا أنتِ.. من رواياتك هل من مزيد؟! معها نعود لاشتهاء احتساء فنجان كبير من الشاي والقهوة كمزيج عجيب، خليط يمثل وسيلة تشتيت قلب عن أحبته ساكني عالم الخيال المهيب، مكونًا تنبيهًا للعقل ليخرج من عالم الأعاجيب، هذا العالم الشهي البهي المليء بقصص العشاق، هَلِمُ لتُخبركم «شهرنان» بإحداها.

تقول «شهرنان»: سأخبركم عن رجل عشق العشق، وسطر به أحلى وأغلى درر الكلمات، أهداها لمن ملكت منه الروح كملكة أمازونية ليحوِّلها بنبضاته إلى نهر حب، حالمة القسمات، كتب وكتب حتى باتت هي الأخرى تكتب فيه أقوى الأحاسيس وتنشده أصفى الأبيات، لتغني له يا نهر الحب..

يا من سوَّاه الله بقدر وبيده جملَ بحق من خلقك، حن على من هواك وبقلبه غرامك قد سُطر، نقشك بالحفر الغائر والبارز في الروح، ومن بُعدك وتجاهُلك بات مجروحًا مذبوحًا، يا ملك الإحساس.. يا أمير الكلمات.. يا نبض العمر وسلطان الألحان.. عمري بك مرتبط كأساس البنيان.

يا رجل يجلس على عرش القلب وتوَّج نفسه سلطان العشاق، مالك كل إحساس وحرف ينبض داخلي، يا من لأجلي تجبَّر وطرد مَن سواه وتمركز في بؤرة قلبي وعقلي وملك الروح ليطير بها بملكوت خيال الإلهام.

يا من نقلني من بين أحجار فردوس جنة أحلامي، وأمسك بيدي وسار على أرض زحل الكوكب، من كان لي ماء وهواء لأتنفس وأعيش، من أنعشني بغنائه وكلماته، من روَّح عني وزيَّن بي قلبه زهور نرجس وقرنفل، مَن هيامه كفنان صوفي الأشعار، من سواه المولى عز وجل لينسيني الآهة وأية أحزان؟

من يسقيني الفرح كؤوس عسل بليلي لأرى نجوم سمائي مضيئة ببهاء، من يطعمني هناء شهد الملكات كل صباح، من يخرجني من أوهامي وظنوني برحلات وجولات بكواكب هذا العالم السيارة، لنصول بين زخرفة خيال الأشياء بكل مباح ومتاح وحتى ما هو باستحالة ظهور العنقاء.

من يدخلني عوالم إنس وجان بمهارة، ليسبح داخل أفكاري وينقذني بقبلات حياة بكل وداعة وسماحة، من يضحك فينير القلب بضيائه، ويثير ويداعب مخيلتي، فتنهار وسط كتابات محتارة في وصفه بدقة ومهارة فنانة ملتاعة، يا أنتَ.. أتيت عالمي لتنتشلني من عالم أرواح أرضية وتصعد بي إلى سماء العلا وخيال الأرواح الهيمانة.

يا من ضحكاته، وحتى بسماته، تنثر لاستغرابي لروعة هذا العالم المحتاج بشره لإنعاش وإعادة إحياء، لأستغرب حتى أنفاسي وكيف لا أعطي الله القدر الكافي من الشكر بعبادة خالصة النية بصفاء بال وهدوء، وأستبشر بمدى جمال وكثرة نعم الله علينا؟ لكن يحزنني جفائي مع ذاتي؛ لأني أجحد نعم الله بغباء متمثل في حزني وكآبة أُجبر حالي عليها لضياع أو افتقاد شيء ما.

آه يا هذا.. بسماتك طفل يلعب وسط البشر ليعيدهم أحياء، يا هذا.. أعشق وجودك بحياتي وأراه نعمة وهبها لي الخالق، أرسلها بوقت وميعاد.. كم كنت أشتاق للقائك، ولهذا أشكر ربي، آه يا ربي..

أهواك يا مالك الملكوت ومنظم شئونه، أعشقك يا مالك كل الأكوان ومالك الروح، نصيبي وقدري بيديك نعمة وهدية يا مالك رزقي وحتى خيري وشري، يا منجي من أسوأ أفعالي ومن شر اعتمر كياني ومنقذي من هوائية تتملك خصالي، يا الله.. امنحني القوة والقدرة لأوفيك حق عبادتك يا رحيم بكل الضعفاء.

* * *


اتفاق

«زياد»: إذًا هيا نعمل بجد وإخلاص، لأستطيع أن آتي إليك يوميًّا..

«نايف»: ماذا يمكنني أن أفعل لنحقق هذا؟!

«زياد»: يُمكِنكَ الكثير.. عليك أن تعمل لتكسب الكثير وترد إهانة «عدنان» و«فاطمة»، تنتَقِمُ من كل من استصغر شأنك أو استهان بك..

ألا تريد الانتقام من تلك الحكومة التي ترمي إليك القليل وهم متخمة جيوبهم حد الفيضان؟!

استمر «زياد» ينفث سمه الزعاف ويثير في قلب «نايف» أشجانه وآلامه القديمة، مستغلًّا إياها لصالحه، كي يعمل لحسابه بجمع المعلومات عن الفدائيين وأنشطتهم داخل الجنوب اللبناني..

أثقلت الأوهام والآمال الزائفة رأس «نايف»، فبدأ في الخضوع.. لِمَ لا؟ أَليس من حقه تأمين حياته هو أيضًا والاغتناء؟ الكل يسعى إلى تحقيق طموحاته وآماله، فلمَ ليس هو أيضًا؟!

أذعن «نايف» وأعلن الخضوع لـ«زياد».

تهللت أسارير «زياد» طربًا، لكن باغته «نايف» بشرط..

«نايف»: «زياد».. أريد الحصول على الكثير نظير كل ما سَيُطلَبُ مني من معلومات وخدمات؛ فهذا أمر خطر، وإذا كُشف أمري سيتم شنقي، أريد مقابلًا كافيًا ويزيد على هذه المخاطرة..

«زياد»: لا تقلق «نايف».. سأطلب تخصيص راتب شهري ألفي ليرة لكل منا.. ما رأيك؟

«نايف»: يا الله!! ألفا ليرة (بُهَت وفتح فاه كأبله)..

«زياد» مجيبًا: نعم.. نعم ألفا ليرة..

لكن.. عليك معرفة كل شيء، وجمع كل ما تستطيع الحصول عليه من دون إثارة الريبة أو الشك..

احصل على خططهم، مواعيدهم الدقيقة، أعدادهم ومعداتهم، احصل على كل التفاصيل «نايف»!!

* * *

آه منك «نايف».. من التراب وإلى التراب ستعود؛ فهل هناك من يستحق ضياع جنة الله لأجله، من تضيع بسببه وتسحق العهود؟! الموت لا يستأذن في القدوم! فهل حقًّا مستعد أنت للتخلي عن الدنيا ومتاعها والفوز بالجنة؟! ها هي تصرفاتك توحي بأنك تقول لا، ما أكثر الأشياء التي قد تُفكر بها بلحظتك الحاسمة عند النهاية؟! هل ستظل تفكر في المال والانتقام؟!

في زمن تلوَّث فيه البشر ببقايا الذنوب الجسام، بخبث الثعابين، طمع الغيلان وبقايا الآثام، تلوث بسوء الأفعال وما تجنيه أياديهم على مر الأيام، يتساقط البشر كما يتساقط الجراد في صحراء البيداء، يتساقط من نصفهم بالأحبة بمبررات واهية مع الأخلاء، يتساقط الأصدقاء ونعيش مدعين أنها سنة الحياة بغباء، يتساقط الإخوان ونتوهَّم صمودنا في مواجهة ما بنا من خواء.

يتساقط الكثير ويمضون قُدمًا بجروح روح معلنة الوفاة بخفاء، تضيع النفوس والأرواح في الدنيا وتتيه بغربة وتتغرب مع الأهواء، في عالم البشر نتوه مع أفعال وتصريف القدر، تضيع الجمل لنسقط في مستنقعات الحياة، نسقط ولا نحاول المحاربة لنعيش برضا وبركة الله، لنعلو فوق كل الزلل بهذه الحياة.. هكذا «نايف» اختار السقوط دون أي شعور بالخجل.

سقط «نايف» وهو عاقل لم يفعل، اختار الطريق الأسهل والأسرع لنيل ما يريد من الدنيا، تلك الساحرة التي تأسرنا بحكايات دوَّارة.. اعتقد «نايف» أنه ينظر ويتعامل مع الدنيا باستحقار، لكن الأزمة أنه لم يدرك أنها تعلم أنه يُقيمها كمنارة منشودة، أنه يذوب كقطعة ثلج بالكأس فتُضيف لحياته المزيد من المرارة.. عامل «نايف» الدنيا كعشيقة وحبيبة، لكن للأسف لم يستوعب أنها غدارة، تدور وتدير البشر فيها بوجوه مقنعة، غدر بالبعض مثله، والبعض يعيش بكل شجاعة وجسارة.

أضاع «نايف» عمره الآتي، لم يفهم أن الدُنيا ذاهبة ومعها البشر، وسيأتي غيره ليعمرها، هذا أمر واقع ليس بالجديد أو حتى نبوءة وبشارة، لا باقٍ إلا وجه الله، لكن ولحسرة القلب لم يُدرك «نايف» هذا، لم يستعد لحساب الله وعذاب جحيمه.

* * *

يا أنتِ.. قصِّي علينا، لِمَ تبدو ملامحك حزينة كئيبة؟ ما قصتك؟ ولِمَ هكذا تبدو حالتك بائسة وخطيرة؟! أنا، يا سيدتي، وضعي ميئوس منه؛ فحبيبي هذا هو قاتل لحياتي.. نعم أنت يا سبب ردة قلبي دومًا في غرامك، فهيا اختَر سبيل فراقي وأثبت عليه قرارًا، وسأحطم قلبي وأفتته لأريحك من شر قربي لمجالك، سأخفي أشيائي وعواطف تتجاوز حدود سماء وأرض حياتك..

سأبعدها عن سحب أسماعك، سأقتل حبي وعشقي الرافض لغيابك وأواريه تراب بركان يثور ليحرقه في اليوم آلاف المرات، ليلتهمه جمر نيران مشتعلة ليل نهار دون رحمة أو حتى هوادة علَّه يموت ويرتاح.

حبيبي.. عودتي إليك ردة أفكار ومشاعر، كفر بالصدق وبراءة إحساس الشاعر، كره للذات؛ فوجودك بحياتي ضعف وعذاب أرتضيه بطيب خاطر، وكأني أصدرت فرمانًا عثمانيًّا بحرماني من فرص حياة أفضل، حب أنقى يختار صفائي دواء لحياته، رفض لإبداع وإلهام يسبح بين نجمات سحاب فردوس العدنان.

عودتي إليك هي عقاب روماني بمصارعة أسود عاداتك وأشيائك الخانقة لحياتي وأشيائي، مرسوم من بابا الفاتيكان بجلد الذات صباحًا ومساءً تكفيرًا عن عدم حبي لذاتي، فتوى من شيخ الأزهر بالقتل لكفر أحلامي وطموحاتي، هي ذبح للروح بسيف سوماري وكأنا في حرب تتار كل فريق ينوي فناء للآخر.

أخبرني يا وليدي وطفلي الأكبر، يا حبيب العمر، لِمَ تختار لحبيبتك العيش بين براثن كفر وإلحاد بفطرة كون وجمال طبيعة؟ لِمَ ترميها في دائرة عقاب الذات؟ لِمَ حبك قاسي التعبير، مصمت أجوف، داخله خارج يغرق كدائرة الوحل؟!

لِمَ عصيانك يتجلى لإخفاء حب وعشق يعبق قلبينا وتحاول إنكاره؟ اسمعني مليًّا.. أنت مذنب في حق أرواح اجتمعت ببوتقة الحب، فلِمَ هواك قاتل سفاح لمشاعرك قبل أحاسيسي وعمري يا عمري أنت؟!

أتعلم؟ أصبحت موقنة الآن أن حبك فعل ماضٍ مبني على خيبة حالي، على ضحكة ضاعت وسط تيه حالي معكَ، وسط غيبوبة عنف عشقية تكوي قلبينا.

يا حبي.. أخبرني، إذا كنت تنوي فراقًا وتصر عليه مستقبل درب وحياة، فلِمَ جئت ودخلت حياتي؟ لِمَ بقيت لتشاكس أحلامي؟ لِمَ قلت أريد الدق على بابك؟ لِمَ كانت أمنيتك تخطي عتبة بابي؟

* * *

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↑8الكاتبمدونة محمد شحاتة
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↑2الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
6↑3الكاتبمدونة حسن غريب
7↓-2الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
8↓الكاتبمدونة آيه الغمري
9↓-7الكاتبمدونة حاتم سلامة
10↓-3الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑49الكاتبمدونة هبة محمد163
2↑48الكاتبمدونة سهى الضاوي162
3↑38الكاتبمدونة منال الشرقاوي175
4↑38الكاتبمدونة محمود صلاح178
5↑37الكاتبمدونة مي رضا84
6↑37الكاتبمدونة سلوى بدران130
7↑36الكاتبمدونة هدي مجاهد153
8↑34الكاتبمدونة اسلام أبو علم120
9↑31الكاتبمدونة وسام عسكر165
10↑31الكاتبمدونة كيندا فائز63
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1062
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب684
4الكاتبمدونة ياسر سلمي648
5الكاتبمدونة مريم توركان571
6الكاتبمدونة اشرف الكرم560
7الكاتبمدونة آيه الغمري491
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني419
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين415
10الكاتبمدونة سمير حماد 399

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب325872
2الكاتبمدونة نهلة حمودة180680
3الكاتبمدونة ياسر سلمي174065
4الكاتبمدونة زينب حمدي166681
5الكاتبمدونة اشرف الكرم125121
6الكاتبمدونة مني امين115384
7الكاتبمدونة سمير حماد 104563
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي95120
9الكاتبمدونة مني العقدة92686
10الكاتبمدونة مها العطار86180

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة هاله اسماعيل2025-05-18
2الكاتبمدونة محمد عرابين2025-05-15
3الكاتبمدونة اريج الشرفا2025-05-13
4الكاتبمدونة هبه الزيني2025-05-12
5الكاتبمدونة مها الخواجه2025-05-10
6الكاتبمدونة نشوة ابوالوفا2025-05-10
7الكاتبمدونة كريمان سالم2025-05-10
8الكاتبمدونة رشا ماهر2025-05-09
9الكاتبمدونة مها اسماعيل 2025-05-09
10الكاتبمدونة طه ابوزيد2025-05-08

المتواجدون حالياً

1145 زائر، و1 أعضاء داخل الموقع