"طيبة الذكر أم هيام - اختشي شوية يا ولية ! - أول حب في حياتي - " إنها ترقد في عشها على صندوق "التكييف" خارج شباك حجرتي، توقظني بهديلها المكتوم إذا ما غفوت بعد صلاة الفجر، اخشى ان افتح الشباك فتطير مفزوعة، لكنني حين فتحته لم تخف وظلت قابعة تهدل وأنا ألقي عليها تحية الصباح".
كانت جدتي تستقبل تلك المرأة الريفية الجميلة "أم هيام" تأتي لها بالزبد والبيض والطيور من قريتها بالفيوم، امرأة ممشوقة القامة سمراء ذات شعر ذهبي وعيون عسلية"تحشو" صدرها بالملابس لسبب مبهم لم أكن افهمه، عرفت بعدها انه فرط نحافة!
تزوجت أم هيام مرتين وكانت تستعد لزيجة ثالثة، أولهما مات وثانيهما طلقها لأنها أنجبت له بنتا! أما الثالث فهو كهل معروف بثرائه في القرية، ولكنها رغم ثرائه ترفض أن تترك مهنتها وتصر على التجارة الرائجة لها في القاهرة.
تقوم أم هيام بعمل كل ما يلزم لجدتي، من ترتيب لسلال البيض بالثلاجة ووضع الزبد بعد "تسييحه" في برطمانات زجاجية..وانا مازلت في الرابعة عشر أشاهد تلك العمليات المعقدة بكثير من الفضول.
كانت جدتي تراقب بصرامة كل ما تقوله أم هيام لي لعلمها بأن المرأة جريئة قد تتفوه أو تلمح بنكات أو كلام لا يليق أمام الصغيرات، فكانت تنهرها كلما اقتربت من أي حديث، وكنت أشعر بغموض غريب في كلامهما وعلاقتهما، فجدتي تحبها كثيرا رغم انها تنهرها طول الوقت، وهي "أم هيام" لا تعدل "بالحاجة أم وجدي" أي زباين آخرين مهما أغروها، فأحلى ما تنتجه حكر على "الحاجة أم وجدي"
حين كبرت قليلا عرفت سبب حب جدتي لأم هيام، ذلك أنها امراة ناصعة الذمة حقانية رغم أميتها تجيد الحساب وتقيم الوزن بالقسط ولا تخسر الميزان ونظيفة وكذلك كل منتجاتها من زبد وبيض ودواجن كما انها خفيفة الظل بشكل لا يصدق.
وأما أم هيام فقد أحبت جدتي لسخائها وورعها واستماعها لها بحكمة وصبر أم رؤوم تصغي لمشاكلها مع زوجها الجديد وطليقها "ابو البنت"
كانت تحب جدتي حبا جما رغم صرامتها معها وحسمها ومقاطعتها لها دوما قائلة "اختشي شوية يا ولية البنات قاعدين" فتضحك ام هيام وتقول بدلال "اختشينا يومه"
كان هناك شخص آخر يستوقفني ويدهشني ويأتي مع أم هيام أحيانا، هو "هيام" ابنتها، تلك الفلاحة الجميلة التي تكاد تكون نسخة من أمها بشعرها الذهبي وسمارها الغريب وقوامها النحيف، وملامحها الجميلة، كانت تتمنى الالتحاق بمدرسة التمريض وكنت أستغرب حلمها وانا التي أحلم بان أكون مضيفة طيران وأجوب العالم كالحمام الذي أحببته وهي تريد أن تلتصق بمستشفى قريتها !
كانت تجيد ألعابا غريبة بالأحجار التي تحملها معها لكل مكان، تقول انها جمعتها من الطرقات ولا أدري لما!
ولكنها كانت تلعب بهم كالحاوي أو المهرج وحولنا يدور همس جدتي وأمها يعلو صوت جدتي حينا بصرامة أو بالضحك وهي تلعن جرأتها.
كنت أجلس حين تزورنا أم هيام بجانب "سلة كبيرة بها الحمام مترابط ببعضه البعض ولا أدري كيف لا يطير والغطاء خفيف شفاف يهتز ويصدر الحمام هديله بصوته المحبب لنفسي، تقترب مني أم هيام وكانت جريئة تعرف قدر جمالها وتغمز لي بشكل غامض لا بد أن تسقي الحمام بنفسك.، الحمام بيلوف بسرعة عالحلوين، معلوم
-كيف؟ كيف أسقيه
-ضعي كمية من الماء بفمك ثم ضعي منقاره في فمك وهو سيشرب..
-هل يشرب مني؟
-نعم طالما حلوة وريحتك حلوة يشرب منك الحمام وتستكين إناث الحيوانات وأنت تحلبينها، تعالي معي البلد لتجربي بنفسك ، هاتيها يوم يا حاجة ما تخافي عليها وارجعها لك، أنظر لجدتي متوسلة فتتجاهلني نظراتها وتتمتم: بس يا ولية يا مخرفة أعطيك دينا؟؟
فتضحك ام هيام معقبة "والله يا حاجة نشيلها فوق الراس"
وكنت أفعل، أسقي الحمام كما علمتني وأظل اقبله في منقاره وهو مستكين يغرغر، وكم كنت سعيدة وأنا أسمع غرغرته الطفيفة التي تكاد لا تسمع وهو يشرب الماء من فمي، حتى كان يوم واشترت جدتي الحمام وسقيته بفمي ثم قامت أم هيام ونادتني لأشاهد مشهدا لا يغيب عن بالي وقد امتلأ حمام بيتنا بالدماء..؟!
حجم الفزع والصدمة التي تملكتني وأنا أشاهد أصدقائي يذبحون بعد أن سقيتهم بفمي أوجعتني لأيام عديدة
قلت لها: كيف تريدينني أن اشاهد ذبحهم وقد أعطوني الأمان وشربوا من فمي، نفس الفم الذي سيأكلهم في الظهيرة؟ كيف آكلهم؟؟
ضحكت أم هيام وكانت رغم "أميتها" تجيد الحياة، وتنطق بحكم عفوية تجعل جدتي دوما تتمتم وتحوقل لفرط إعجابها بما تقوله، هذه المرة قالت لي: هذا أول درس، لا تأمني كثيرا لمن يسقيك اليوم فلربما هو آكلك غدا.
غاصت روحي في روحي ودخلت البلكونة أشاهد الحمام الذي أحبه وأريد أن أكون مثله، رأيت الحمام يطير في فضاء الله يبشر بالسلام رغم علمه بأن نهايته الذبح..
كان الدرس مؤلما جدا، ليس لعمقه فقط، ولكن لأنه حرمني من أكل الحمام لفترة لا بأس بها :)
دينا عاصم
دينا سعيد عاصم