"تنجار"، طبيعتها حين يختلط النهر بالأرض فيداعبها فهو مرة يتوسط قراها ومرة تقفز هي في أحضانه كجزيرة هبطت من الجنة، والنهر في الجنوب عَصِيّ متشرد لا يحب إلا الأرض التي تماثله في غجريته وبدائيته، فمرة يغرقها الطوفان بعنفوانه وحبه ومرة ينحسر عنها في مودة ورقة تشي بآلاف السنين من العشق الخالص وكأنها طقس زاوج بين الأرض والنهر على مرأى من الناس الذين اعتادوا رؤية وصلات الحب تلك، فركنوا للجمال وآمنوا به في تعاملاتهم وأفرز فيهم طيبة متأصلة وتقبلا للآخر ولين طباع يليق بسمارهم اللامع وابتسامتهم المصطفة التي ترطب صباحات الأيام الحارة،
رفعت جلبابها الملون وفوقه جلباب شفيف أسود اللون ووضعت قدميها في مياه النهر العذبة وأشارت له ثم هتفت "سلييييم، تعال، تعالي يا سؤدد"
سليم"بحنان وعقلانية لا تليق بسنه الصغيرة: لا، سيبتلّ "جرجارك" وتضربك أمي، لما تصرين على ارتدائه وقت اللعب يا نجيبة، إنه للعيد
نجيبة: أحب أن أستقبل النهر كالعروس التي كانوا يلقونها فيه قديما "لا يبدو على سليم وسؤدد بسنوات عمرهما السبع أنهما فهما"
تكمل نجيبة وهي تحتضن المياه "أمي قالت إن أجدادنا كانوا يرمون أجمل فتاة للنهر حتى يسكن ويأتي بالخير من السودان" في وقت الفيضان، وتقول مدرسة الجغرافيا أبله عواطف إن الفيضان كان يبدأ في أغسطس واسمه ساعتها "مس رع" ونقولها نحن "مسرى" دلوقت، أبلة عواطف تقول إني سأصبح طبيبة
سليم: "متجاهلا باقي المعلومات التي تسردها نجيبة" وتموت؟؟؟
نجيبة بعد أن هزت رأسها دون اكتراث: عروس النيل؟؟ نعم، تموت مثل الفيلم الذي رأيناه في بيت أبو نصر بالتلفزيون" وأكملت سباحتها وسط نظرات حائرة من سليم وتنهدات حانقة من سؤدد
سليم: متى يشتري لنا أبوي تلفزيون محدثا نفسه بصوت عال
سؤدد: تعالى نروح نتفرج عندنا، عندنا نحن أيضا تلفزيون
سليم "بعناد": لأ
كانت سؤدد ابنة العمة على صغر سنها جريئة كأنها ولدت امرأة، شأنها شأن كثيرات من البنات في الأقاليم، "وكانت جرأتها تلك تنفر سليم"، ففيه شيء روحاني يميل للحياء ولا سيما في سنه الغضة تلك،
سؤدد كانت مثل بنات الأقاليم فهن برغم التضييق عليهن إلا أن عيونهن تتفتح مبكرا جدا على تفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة، وكأنهن يرضعنها مع أثداء الأمهات فتتفتح حاسة الفتاة الانثوية في سن مبكرة جدا وتصير العلاقة والزواج محور أحاديث السيدات حين يجتمعن ببعضهن البعض وفي حضور فتياتهن غير عابئات باستماعهن، ولربما رأين أن في تلك المعارف صيانة للبنت من الوقوع في الخطيئة ! فكانت الام والابنة والأخت تعرف عن زوج ابنتها او اختها او جارتها ادق تفاصيل حالته وما يحبه وما يكرهه ويا ويله إن كان به ضعف، أو لا يحب زوجته ولا يقبل عليها فإن كونسولتو من السيدات يجلسن مع الزوجة للتشاور في علاج ربما حجاب أو أكلة معينة أو مشروب تراثي قديم إلا أن آخر ما يفكر أحد في اللجوء له فهو الطبيب !
وهكذا صارت سؤدد لا يشغل عقلها - على صغر سنها - إلا سليم ولا يهمها إلا تخطي العقبة التي تقف بطريقها...أخته نجيبة"
وأما ما حدث لنجيبة فقد كان عجيبا وعلى عكس بنات البلد، نال منها ألم الختان حتى أورث روحها استسلاما حزينا للمقادير، غفرت لأمها ولم تغفر لها في ذات الوقت، وضاعت في منطقة ما بين عهدين، فكأن روحها علقت في منطقة الطفولة بينما يسرع جسدها الخطى نحو الصبا، ولكأن عملية الختان كانت شرارة أشعلت الجسد وأطفأت الروح رغم أن الغرض منها كان العكس تماما !
وصال،، زهرة الجنوب (تحت الطبع)
بقلمي: دينا عاصم