الفصل الثاني
الجزء الأول
في ضوء خافت يتوسط ظلمة مكان فسيح هادئ أكبر من عدة غرف متلاصقة يخلو من أنفاس البشر، وقف حسام هذا الشاب النحيل فارع الطول ذو الشعر الأسود الكثيف وذو العينين البنيتين اللامعتين، والبشرة البيضاء، تتسارع نبضاته وترتعد أطرافه وسط هذا السكون المهيب، ينتظر لجنة التحكيم التي سيعقد أمامها مشهد نجاحه الساحق أو فشله المرير، عقله يذهب بعيدا عن الجميع، يراود تلابيب روحه عما سيحدث بعد تلك الدقائق التي تمر وكأنها دهور سحيقة، عيناه تتلفتان يمنة ويسرة ولا تأبهان لتلك الصفوف الحمراء المتراصة أمامه بانتظام جميل وكأن لها هيبة خاصة تُبنى بينه وبينها وبداية لذكريات بداياته، وطريق المجد الذي يخطو عليه أولى خطواته، وعلى جانبيه شقي تلك الستارة الكبيرة المليئة بالشغف والحماس لمن يقف خلفها والتي نبغ أمامها من يستحق لقب فنان فينال من التصفيق المدوي ما تطرب له روحه وتشغف بها نفسه، فيزداد فخرا وحماسة لمواصلة طريقه الطويل، طريق المجد والحياة، حالة خاصة من السكون المختلط بأنفاس هذا الشاب الوسيم الذي يطمح أن يكون يوما فنانا مسرحيا مشهورا، يتلعثم نبضه قبل لسانه في ترديد كلمات هذا المشهد بعد أن استل سيف شجاعته ليعيد ترديد المشهد بكل حذافيره فلا ينقص شيئا من الكلمات ولا يزيد، مع ازدياد وتيرة الإحساس لأحداث المشهد، ويرتب بذهنه كيف ستكون تعبيرات وجهه وكيف ستتباين وتتردد ما بين الحزن والغضب!، واستحضار تلك الأرواح داخل نفسه خلال أداء هذا المشهد القصير وبعد انتهاء تلك الدقائق المعدودة سيكون الحال إما النجاح المبهر أو الفشل المميت، أو ربما هو الدخول من باب العظماء أو الخروج من باب الفاشلين، يرجع بذكرياته للوراء ويسترجع جميع التفاصيل التي تدرب عليها كثيرا في سطوح منزله، الذي اعتبره مسرح أيامه حين كان يحضر إخوته أمامه وهم يتسامرون ويتخيلون أنفسهم في مصاحبة هذا الموكب العظيم، فهذا هو المسرح وهم جمهوره العظماء وأمامهم يقف حسام ليرسم موهبته ببراعة فنان، ترى كيف سيستطيع في تلك الدقائق القليلة أن يقنع لجنة التحكيم بمهاراته الفنية التمثيلية؟، وكيف له ذلك وهي المرة الأولى التي يمارس فيها التمثيل عمليا بعيدا عن معهده ودراسته فيعبر بعدها لباب المجد والحياة التي يتمناها دوما، كيف سيجاهد روحه لتنقسم في مشاعرها فيتجسد ذلك في تقاسيم وجهه التي تتأرجح ما بين ملمح حزن وضحك في آن واحد، أو ربما مشهد يستدرج فيه دموع الفرح ممتزجة بدموع الألم، كيف سيصارع الموت وكيف سيقتل أنفاس الطغيان، كيف ستختلج روحه ويتردد صوته مرتفعا ومنخفضا كآلة موسيقية يعزفها فنان ماهر فترتفع بالمقامات ذهابا وإيابا ليبهر هذا الجمهور ذو الذائقة اللامعة، أسئلة تراوغ حسام وتدور بمخيلته، ورغم تدريبه المتواصل في الأيام السابقة إلا أن حالة الخوف تتملكه الآن، ربما هو خوف الطموح والإصرار على النجاح ونقش أولى خطواته للوصول لطريق أحلامه القائم بنبضه وروحه منذ نعومة الأظفار حتى ريعان الشباب، وبينما هو كائن هكذا في ملكوت روحه يسمع وقع أقدام لجنة التحكيم تقترب شيئا فشيئا، أخذوا يتراصون أمامه أسفل خشبة المسرح العظيمة، ترانيم أنفاسه حينها تحاول أن تهدأ ببطء كي لا يلاحظها أحد، عيناه وروحه وكل ذرة به يتشبثون بحلمه وبأمله وبطوق نجاة يدنيه من المجد، حتى انطلق صوت أحد الحكام يسأله عن اسمه فيجيب: حسام محمد عبد الله. فيُشار إليه بالبدء ...
" ملامح يملأها الخوف مضطربة حائرة وعينان زائغتان ويد ترتعش من مجهول قادم، ويد الغضب يعصف بأوج الهدوء يتكلم بالهاتف: يا دكتور أخبرني بالله عليك هل أمي بخير، ماذا؟، لا لا، لا تقل هذا أمي لن تفارقنا سنعمل لها العملية، الوقت لن يهزمنا، سأوفر الـ...... ،صراخ كثير، يقع الهاتف من يده يجرى نحو سرير قابع في طرف المسرح فينتقل معه ضوء المسرح ويرمي نفسه على خيال مسجى على سرير قاتم"
: أمي لا ، لا تختبريني بهذا التمثيل، أفيقي يا أمي، أم أمممم أمي انتظري.! (دموع حارقة و لعثمة وتردد) : هل رحلتِ؟! انتظري سأجهز المال لن يعيقني شيء، أمي الدكتور طمأننا، لا يا أمي لن تتركينا أنا وأخواتي نحتاجك جدا، من سيوقظنا من نومنا، من سيجهز فطورنا ونحن نسمع ضحكاتك الجميلة تتردد في أركان البيت، من سيجهز ساندويتشات المدرسة، من سيودعنا ومن سيستقبلنا عند عودتنا، من سيرتفع صراخها علينا حين نفتعل المشاكل معك؟؟ أمي رحماك يا الله (سقوط على ركبتيه وبكاء مرير)
:أمييييييي عودي التقطي أنفاسك مجددا، أعدك أني سأطيعك ولن أرفض لك أمرا، لا تغضبي، أعرف أن قلبك يدعو لي، لا تفلتي يدي أستحلفك بالله،