الفصل الاول من رواية غيوم الشر
----
الشيخ يونس
في ظلام الليل الحالك وسواد هدوئه، تبدأ نوبات من الصراع ذي الدرجات المتفاوتة، وكأنه حريق اندلع من فم النسيان، تزيد حرارته رويدًا حتى تتصاعد أدخنته، وكأنها أدخنة ثائرة من جوف بركان ملتهب، تأكل كل ما يأتي بطريقها، مدمرة لكل أخضر ويابس، وعبر ذلك الهدوء كانت هناك أرجل خفية في جنح الليل تسير بترقب ووجل، تسير حذو حائط كأنها تلتصق به من فزع وخوف، يغلفهما تلك النظرات الشريرة المنبعثة من قلوب سوداء، أنفاس متباطئة مخنوق صداها، وهمسات متباطئة تفكر بحذر وتستعد لمجابهة هذا الأمر الخطير خلف هذا الباب القديم المتهالك، المطلي باللون الأخضر الغامق، وهذا المقبض النحاسي الغريب شكله ذو الألوان الباهتة التي تميزه وكأنه من عصور سحيقة، ورغم قدم الباب، لكنه يبدو وكأنه سور عظيم لا يستطيع أحد أن يكسر هيبته ورهبته، وكيف لهذه الأعين الزائغة رعبًا ألا تخشى باب الشيخ يونس وأسراره المختبئة خلفه؟ ربما لو سنح لهؤلاء الأشخاص الخائفين الهرب من تلك المصيبة التي يسيرون إليها بمحض إرادتهم، لفعلوا ذلك، ولكنها أوامر كبيرهم عزت بيه الهواري، فلا رجعة لهم ولا قرار في عصيان أوامره، فهم ما بين ويلين متضادين كلاهما نار متأججة، لا مناص لهم الآن، فمن الموت وإلى الموت يسيرون!
وخلف الباب المزعوم، كان الشيخ يونس جالسًا في هدوء وسكون على أريكته البالية في ساحة بيته الخالية من أي شيء عدا هذه الأريكة الموجودة في عقر داره، وهذان الكرسيان عن يمينها ويسارها، وأمامه تلك الطاولة الصغيرة، عليها قصعة صغيرة بها بعض قطع الخشب الصغيرة الموقدة بها النار الخافتة، التي كلما خبت جذوتها باغتها الشيخ بإلقاء البخور فيها لتتصاعد أبخرته ودخانه، مرددًا «حي» عدة مرات.
ينتظر الشيخ يونس هؤلاء الحمقى الذين يتسللون إليه خفيةً في عقر داره، كحية رقطاء تتربص بفريستها هنيهة كي تنقض عليها حين غفلة من أمرها، فتصب سمها الزعاف من لدغة آثمة غادرة.
ولكن لِمَ يجلس الشيخ يونس بهذا الهدوء والثبات، رغم علمه بالكارثة التي ستحدث بعد قليل؟ أليس من باب أولى الاختباء من هؤلاء الرجال الأشرار المتربصين به ليأمن شرهم؟
إنه يجلس في مقعده بهيبة وروية، حتى شعر باقتراب خطاهم وهم قبالة بابه الأخضر، فنادى يونس بعلو صوته:
- تفضلوا أيها الأغراب!
فزع الرجال وارتجفت نبضاتهم، وتلكأوا قليلًا حتى جمعوا شتاتهم، فقال تميم بصوت خافت:
- أهو يعلم بقدومنا؟
أجاب أحمد:
- ألا تعلم الشيخ يونس وكراماته؟ ألم تسمع بها أبدًا يا رجل؟
أجاب عثمان بعد تفكير عميق:
- وكيف سنقوم بمهمتنا إذًا؟
- وقال تميم: هيا ندخل يا رجال، سنباغته وننقض عليه بيد واحدة من حديد ونقضي عليه، فلا يغرنكم حديثه أبدًا، فمهما حدث، فهو فرد واحد ونحن جماعة، اتفقنا يا رجال؟
رددوا بصوتٍ واحدٍ منخفض:
- اتفقنا، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى دفعوا الباب دفعة واحدة، وما هي إلا ثوانٍ أخرى حتى وقفوا أمام الشيخ يونس بشحمه ولحمه، أما الشيخ يونس فلم يهتز طرفه مطلقًا وكان بثباته وهدوئه المعتادين حتى أنه باغتهم بإلقاء التحية كأنهم ضيوف أحباب قد جاءوا لزيارته زيارة ودية.
تململ الرجال وردوا بصوتٍ خافت:
- وعليك السلام!
وحين هموا بالانقضاض عليه كما اتفقوا، شعروا وكأن هناك حاجزًا غير مرئي يقف حائلاً بينهم وبين الشيخ، ثم أسرع الشيخ يونس قائلاً:
- تفضلوا يا رجال، أعلم جيدًا لمَ أتيتم كما أعلم أيضًا من أرسلكم!
فلا حاجة لي بكم ولا أهتم لما تفعلون، ولكني أعلم جيدًا أنكم ستعودون سالمين من حيث أتيتم وتخبرون سيدكم برسالتي.. وإلا فلن تأمنوا شري، والقرار يرجع إليكم، فإن كنتم أهل طيب فمرحبًا بكم وإن كنتم أهل سوء فلا سلام لكم عندي ولن تأمنوا أذاي، وقبل أن يرتد إليكم طرفكم سيتبعكم جزاء ما صنعتم، وقد أعذر من أنذر!
نظر الرجال الثلاثة بعضهم إلى بعض وقال أحمد محادثا الشيخ يونس بشجاعة:
- ومن يضمن لنا سلامتنا إن أطعناك ولم ننفذ مهمتنا يا شيخ؟
- لا ضمان لكم عندي إلا كلمتي، وأظن أنكم سمعتم من هو الشيخ يونس وما هي كلمته؟
- لكنّك يا شيخ تعلم كما نعلم أننا لن نسلم من أذى كبيرنا عزت بيه، إن وافقناك، فماذا نفعل ونحن في حيرة من أمرنا، بين خيارين لا يقل أحدهما سوءًا عن الآخر؟
- حين تخبرون مرسلكم برسالتي، فلن يؤذيكم وأضمن لكم ذلك برقبتي.
وأثناء حديث الشيخ، قام عثمان الذي لم يكن يستمع لكلام الشيخ إطلاقا بل كان يستمع لهواجس عقله، الذي دفعه إلى توجيه يده المقبوضة بقوة نحو خنجر قاتل موجه صوب قلب الشيخ يونس مباشرة، وفي ثوانٍ معدودة كان قد اقترب منه، وقبل أن يندفع الخنجر نحو قلب الشيخ يونس، انقلب اتجاهه فجأة نحو الاتجاه المعاكس، وصوب نحو قلب عثمان، ثم غُرِزَ في صدره فأرداه قتيلًا في طرفة عين.
فزع أحمد وتميم أمام الشيخ لما حدث لعثمان، وكيف قضى نحبه أمامهم في ثوانٍ معدودة!
صمت الجميع قليلا حتى قال أحمد والخوف حليفه:
- نحن سنقوم بتبليغ رسالتك يا شيخ.
- حسنًا يا رجال، أبلغوا سيدكم قولي:
«سيرد الغائب لحضن أمه، وستعود الحبيبة لحبيبها».
لم يفهم أحمد وتميم شيئًا مما قاله الشيخ لكنهما لم يفكرا، فقط حملا صديقهما عثمان الملطخ بدمه وهمَّا بالمغادرة سريعًا قبل أن يحل عليهما غضب الشيخ يونس، الذي أتم جلسته وقامته بعد خروجهما، وابتسم ابتسامة ماكرة ورمى بخوره في النار وقال جملة أخيرة لم يكملها في رسالته لعزت:
- وقلوبهم جميعا عندي!