بيرشمس بين الماضي والحاضر
----------------------------
لا شك أن من ليس له ماضي لا حاضر له، ومن خلال هذه الحلقة سنذهب إلى الماضي البعيد في محاولة منا لنري كيف كانت الحياة التي عاشها أجدادنا وأباءنا؟
طلب مني كثيرون أن أبحر في الماضي، فهناك حنين يستشعرونه في أنفسهم نحو معرفة هذه الجذور والتطلع إليها. طلبوا مني أكثر من حلقة عن هذا الموضوع، لأننا بحاجة إلى العودة للجذور،
ومن ثم بدأت فكرة هذه الحلقة حينما كنت أجلس أنا وأبي أمام المنزل، بينما تمر علينا دراجات نارية"موتسكلات"بأضواء صاخبة وأغان تصحبها ضجة عالية، بدأ أبي الحديث عن ظواهر كثيرة يراها اليوم ويقارنها بالماضي حيث لم يكن لها أثر وقد تغير كل شيء.
" أيه اللى بنشوفه النهاردة ده، ازاى بيجروا كده صوتهم عالي مش في آداب للطريق، مش في ناس مرضى؟
زمان مكنش في موتسكلات كتيير كده، كنا بنركب الحمار، ولو عدينا على جنازة أو "عزاء" لازم ننزل من على الحمار، لحد ما نعدي وبعدين نكمل طريقنا، ولو الستات معدية وفي رجالة قاعدة بتشيل شبشبها، مكناش فاضيين زى دلوقتي، أهالينا كانوا شاغلينا طول الوقت، الدار والغيط والشغل، ولو في شغل في غيط جارنا نروح ونساعده، ولو جارنا مريض نرويله أرضه، ولو في فرح كلنا نروح ونهني، ولو في ميت نشارك الحزن مع أهل الميت ومنفتحش التلفزيون مدة كبيرة، ولا نعمل محشي.!
كنا بنحس ببعض، كان الكبير له تقديره وبنهابه، والصغير نعطف عليه، مكنش في أصوات في الشوارع بالطريقة دي، ولا تلفونات شغلانا طول الوقت باصين في التلفون، لو واحد اتسرق مش هيأخد باله أصلا، حتى المصايب كانت بتجمعنا عشان ندعم ونساعد دلوقتي لو في مصيبة بنجري نصور وننشر قبل ما نفكر نساعد، أكتر حاجة بتحزن، رمضان اللي كان بيلم الكل اللى في مصر لازم يجئ واللي متخاصمين يتصالحوا عشان صيامهم ينفع، تعالي شوفي رمضان دلوقتي.!
البارود اللى بوظ ودانا، والصواريخ، والسلك الواقع في الشوارع، والستات اللى بتخرج في رمضان أكتر من أي شهر تاني بحجة التراويح، هي أمي مكنتش بتصلي التراويح في البيت، لازم تروح الجامع وتسحب معاها أطفالها عشان يصوتوا ويلعبوا ويفقدوا الصلاة سكونها، لا يا بنتي انتو بتصعبوا عليا، اه عندكوا رفاهيات كتيير مكنتش عندنا، بس دى نقمة عليكم باستخدامكم ليها مش نعمة، اكتبي يابنتي عرفي الجيل ده احنا كنا عايشين ازاى وربينا المهندس والمدرس والفلاح والدكتور وكلهم نافعين في مكانهم وفي بيوتهم، عرفيهم أننا كنا لو شفنا المدرس بتاعنا جاي من طريق بنمشي من طريق تاني خوف واحترام، انا يا بنتي بشوف العيال الصغيرة بتشتم في الشارع بصوت عالي كده عادي الغريبة أننا اتعودنا على كده، واللى بينصح مرة ومش هيتسمع كلامه هيزهق، احنا كنا بنخاف على مشاعر بعض عن كده، كنا بنراعي المشاعر عن كده.
عرفيهم أن اللبس والبهرجة مش حلوة ولا حاجة، طول ما احنا بنهتم بنضافة بره وبنسيب اللى جوه مش نضيف."
انتهى هنا حديث أبي.. ولعلك اعتقدت كقارئ أنني سأبحر في عباب الماضي جغرافيا أو تاريخيا أحكي مواقف حدثت ووقائع حصلت، ولكني لم أفعل ذلك، لأن حديث أبي عن القرية التي فقدت
رونقها والريف الذي فقد مميزاته، وسكانه الذين فقدوا أعرافهم وطبيعتهم، كان لابد أن يكون محل اعتبار وأن يقدم على كل حديث، لا لنعظ أنفسنا ونعود إليه القيم التي هجرناها ، ولكن ليكون لنا ماض نبكيه أو نرثيه، فالعودة صارت صعبة بل يمكن أن تكون محالة، فكل تغيير للأسوأ تجذر في الحياة والتف عليها والتفت عليه فلا فكاك ولا فراق.
لكن يمكن لنا في هذه الدوامة وبين هذه الفضائل التي كانت، أن نتذكر ومجرد الذكرى شيء جميل عساه ينبت في النفوس تقديرا للقيم والأخلاق ويعود علينا بما ينعش هممنا نحو كثير من الصلاح والإصلاح. ربما لا نستطيع اليوم، لكن معرفة الماضي وقصها على الأجيال القادمة واجب بل فرض عين، ربما يخرج منهم من يقدس أخلاقيات القرية قديما،
مشكلة مجتمعنا عموما هي الاخلاق، حينما أرادوا أن يهزمونا، عملوا على ضياع أخلاقنا التي تشكل هويتنا، لا أريد أن أكون في محل الوعظ أنا أقل من ذلك، أردت فقط أن أدق جرس في أذني قبل اذنكم انتبهوا يرحمكم الله، انتبهوا يرحمكم الله..