الأنساق المضمرة في قصة (مقوات) للأديب اليمني عبدالله عبد الإله عبدالله عبدالإله باسلامه
الأنساق الاجتماعية والثقافية ...سؤال الهوية
----
ترصد قصة مقوات خطورة مرحلة تحول المجتمع اليمني الزراعي في بنيته الأساسية من مجتمع يحفل بالاهتمام بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي تعتمد على مفاهيم الأسرة والعمل واحترام الأدوار الأسرية إلى مجتمع تسوده قيم جديدة مختلفة عن المألوف من خلال تحول النمط الاقتصادي من الاعتماد على البن كزراعة أساسية تقود الاقتصاد ومتطلبات السوق إلى زراعة القات التي انتشرت في السنوات الماضية وخلال عقدين وأكثر، حيث يبرز النص بداية هذا التحول وأظن أن الزمن في القصة يعود إلى العشرية الأخيرة من القرن العشرين أو العشرية الاولى من القرن الحادي والعشرين فهي الفترة التي شهدت هذا الصراع وأسست له بعمق في المجتمع اليمني وطغت عليه لفترة ليست بالوجيزة ولكن الآن كما أرى يشهد المجتمع اليمني عودة عن هذا الإغراق في عالم القات وعودة إلى عالم البن لكنها عودة لم تظهر نتائجها بعد ولم يسيطر فيها الأصل في الموروث. وربما سنرى في المستقبل القريب هذه السيطرة نتيجة للوعي الذي انتشر وفرض نفسه على مكونات المجتمع كافة رغم ما يرافق هذه العودة من صعوبة بسبب الوضع الاجتماعي والسياسي القلق وغير المستقر الذي تشهده البلد منذ عقود نتيجة للصراعات السياسية والمذهبية التي تعصف بالبلاد .
وفيمايلي أستعرض مجموعة من الأنساق الاجتماعية والثقافية التي تضمنها النص وعكست تأثر الكاتب بمعطيات مجتمعه ونقله لها قصديا أو عفويا لكن هذا ما حواه النص.
نسق الأسرة والتقاليد الأسرية والقبلية
حمل النص أنساقا اجتماعية أساسية تتمثل بالاسرة كبنية اولى يقوم عليها المجتمع اليمني الأسرة في التص مؤلفة من الأب والأم والابناء تتوزع الادوار في الأسرة بشكل اعتيادي فالأب له دور القيادة والسلطة والقرار، وهو رأس القبيلة أو العائلة ويمثل الأصل أو الجذر المتمسك بتقاليد العائلة في كل نواحي الحياة من حيث العمل فهو الذي قرر زراعة البن وهو الذي يفتخر بهذه الزراعة ويعدها البركة وهو الذي يرأس قافلة البضاعة من البن التي ستتوجه الى السوق ويبرز في شخصية الأب الحزن مع الحنان، والصرامة مع التماسك، لكنه لايبدو متحكما سلبيا فهو لم يمنع ابنه مقوات من الذهاب معهم إلى السوق لبيع بضاعته من القات رغم معارضته لتلك الزراعة والتجارة.
نسق المرأة:
وتظهر من خلال شخصية الأم ولها دور الر عاية، والعمل في الزراعة مع باقي أفراد العائلة ولهاد دور الدعم العاطفي وبث الحنان حيث تجمع حبات البن الناضجة، ويظهر دورها في التربية، وتحديد خطوط التقاليد العائلية وايضا تظهر بدور منبع العواطف من خلال تعزيز دور الأب ، ويظهر اعجابها به حيث تصفه (كعريس) وكذلك من خلال تهيؤها للزغردة حين رؤية الركب عائدا وأخيرا عكست الخيبة التي مني بها من خلال الإشارة إلى ابتلاع الزغرودة.
نسق التقاليد الزراعية:
ويبدو هذا النسق هو الاساس في بناء الحبكة القصصية من خلال الصراع الخفي بين زراعة البن وزراعة القات و يتمثل ذلك بالحوار بين الأب وجابر ثم بين الأب وابنه الاصغر الذي لايظهر اسمه بل لقبه المرتبط بطبيعة عمله مقوات ويأتي اللفظ وكأنه إهانة أو تصغير لحامله وهو تعبير عن رفض الأب لهذه النقلة في الزراعة خصوصا أنه يركز أنها اي حبات البن هي البركة بينما يأتيه الجواب حين سأل عن موضع زراعتها ( أسفل المدرجات في المكان الذي ترمى فيه مخلفات الزراعة والحصى ) إذا هو يشير إلى أنها نبت مهان ينمو في الأماكن المهملة والمتروكة أو أنها نبات شيطاني ينمو في أي مكان ويتشبث بالبقاء لأنه يريد السيطرة على مستقبل الزراعة والتجارة.
وهذا التحليل يقودنا إلى رسم صورة للمستقبل الذي ينتظر مجتمع اليمن إذا صار هذا التحول واقعا وتم بهيمنة نبات القات والجيل الجديد الذي يمثله مقوات الذي عاد ظافرا جذلا من رحلة البيع في السوق في مشهد سريالي تبدو فيه الأم التي كبحت زغرودتها و الأب حاسر الرأس مفلسا عاجزا عن السيطرة وهو يخسرموقعه الاقتصادي الذي يتيح له استمرار السيطرة الاجتماعية، هي هذه النقطة التي رصدها الكاتب بتلميحات بارعة منبثقة من قلب البيئة الاجتماعية والثقافية لليمن والتي ظهرت في الأنساق المضمرة لخطابه.
نسق الهوية الثقافية والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.:
ظهر هذا النسق من خلال علو صوت الأهازيج الشعبية والانماط الموروثة في الثقافة اليمنية وبروز الاعتزاز بالتقاليد الزراعية والاجتماعية اليمنية والتي مثلها الاب ونسق العائلة، ويظهر التهديد الذي مثله الابن مقوات وتجلى ببداية الخروج عن هذا النسق ، وتسلل مفهوم جديد ( إنها بضاعة مرغوبة) وتبرز البضاعة المرغوبة بهيئات مزرية من حيث مكان رزاعتها كما سبق ذكره وايضا بشكل خيشة كبيرة مبللة مدسوسة بين البضائع، ثم تزهر بشكل كيس خيش فارغ يدل على نفاذ الكمية وسعادة المقوات بانحازه بمقابل خيبة الأب وخطواتها البطيئة المثقلة والجمال التي تنوء بحملها وهي تعود به كما هو فليس مرغوبا بعد في مجتمع. يستكمل تحوله باتجاه فقدان هويته القديمة وحلول هوية جديدة مرتبطة بالقات. يحمله جيل جديد يمثله الابن الأصغر للعائلة وهو الذي سيمهد لمفاهيم اجتماعية وعلاقات جديدة تنذر بتغير هائل سبشهده المجتمع اليمني. ولابفوتنا ان نذكر دور اللغة والمصطلحات اللغوية التي استخدمها الكاتب فقد حفل النص بالكلمات المحلية ( الصماطة، العسيب، الجنبية) والتي أجاد الكانب استعمالها وعبرت تماما عن المعنى الذي قصده الكاتب من وضعها وأبرزت سمات المجتمع البمني وكذلك بدايات دخول المصطلحات الجديدة المرتبطة بالتغير في الهوية.
نسق المكان:
يظهر نسق المكان بجلاء نتيجة لاهتمام الكاتب بتحديد المكان والتركيز على جماليته واتساعه. وغناه الزراعي والاجتماعي فهو يصف جبال اليمن ومتحدراتها، وخصوبة تريتها المواءمة لزراعة البن، وعمد إلى رصد التفاعل العميق بين الشخصيات والمكان وكذلك بين الأحداث ولبمكان وهي ميزة مضافة للقصة خرجت بها من عمق محليتها إلى أفق عالمي، فتفاعل الانسان مع بيئته وتفهمه لما يحفظها ويليق بها من اهتمام، والتعامل معها بكونها مكونا ثقافيا عميق التأثير ومطلق الانتماء يجمع بين جمال هذه الجبال ووفرة خيراتها، وضرورة فهمها، والعمل بما توفره من عوامل الخصب والنماء فهو يتعامل معها بحنو ويبذل جهده في العمل بالزراعة لأنه يضمر احتراما عميقا لخصوصية الأرض وقابليتها لانتاج هذا النوع الاقتصادي من المزروعات بمقابل النوع الآخر الذي ينمو بعيدا في الأماكن المهملة. تحمل هذه المفارقة تهديدا بأن كل هذا الجمال سيتحول إلى مكان كارثي إذا سادت زراعة القات، وسينهار الجمال الذي تتميز به المنطقة وتتحول إلى خربة مهملة فتفقد البلاد عنصرا من عناصر هويتها، ويخبو التفاعل بينها وبين ساكنيها، وهذا التوتر الصامت مر مرورا عميقا في خطاب النص، وقد ألمح إليه الكاتب من خلال وصف حبات البن الناضجة التي تجمعها الأم بحنو بالغ وهي تتوهج في ضوء شمس المغيب(أمعن النظر في الطريق المتعرج الذي يتخلل مدرجات أشجار البن التي مالت أغصانها محملة بثمار تتلألأ على ضوء الشفق، كأنها حبات عقيق أحمر. )
خاتمة
لعبت الأنساق الاجتماعية دورا مهما في تأسيس النص وحبك بنيته الداخلية وتأصيل الهوية السياسية والاجتماعية للمجتمع اليمني، والانحياز لأصالته من خلال الانحياز السافر تارة والمضمر تارة أخرى للمحصول الذي يرمز للهوية اليمنية في مواجهة محصول دخيل يوازي الحداثة والقيم الاستهلاكية والثراء السريع مع ما يحمله من تخريب للبيئة والمجتمع والتقاليد وتفكيك نسيج الأسرة والقبيلة والمجتمع ككل.