في زحام الأيام، يكون الكرسي هدنةً نصنعها لأنفُسنا: استراحةٌ للمُتعَب، ومأوى للمُرهَق، ومنصةٌ تُعلن “توقف!” لعجلة الحياة التي لا تعرف الرحمة.
أمام غرفةِ العمليات، يقف وحيدًا حارسًا لباب القلب:
شاهدٌ على ارتجاف الرفوف، وقلقُ الأعينِ المكتومة، وهمسُ الأهلِ على أطراف أصابعهم،
يحمل آثارَ المسحات البيضاء على جنباته، وبصماتِ الندم والدعاء معًا،
ونقول كمان: إنّه الكرسي الذي تستظل به الأرواحُ قبل انطلاقها في رحلة الألم أو الشفاء.
وفي رواقِ المطار الممتدِّ كحلمٍ بعيد، يجلس الكرسي خلف ظهرِ السُّفَرِ الطويل:
يشهد وداعَ العابرين بأحلامهم وأمتعتهم، ويضمُّ وجعَ الوداع وحنينَ اللقاء،
يرافق نظراتٍ تخطفها اللوحات الإلكترونية، تارةً تنبئ بالانتظار، وتارةً بالرحيل،
ونقول كمان: إنه المقعد الذي يختصر قصة وطنٍ تركناه وراءنا، وحبٍ نتشبث به رغم المسافات.
وعلى رصيفِ محطةِ القطار، ينحني الكرسي تحيةً لكلِّ دربٍ لا يُحكى:
بيت الدروب للمتعبين من الرحيل، وللعابرين بحكاياتٍ تهتزُّ تحت وطأة الزمن،
يرتوي من أنفاسِ الفجر حين يعلن السائق عن وجهة الغد،
ويُوقظ منامَ القلوبِ المفتونة بلحنٍ قديم، أو وداعٍ لا يُقال.
ونقول كمان: إنه المنصةُ التي تعلِّمنا أنَّ الانتظارَ جزءٌ من رحلتنا، وأنَّ في ثناياه يولد الأملُ من قلب اليأس.
وفي زاويةٍ صامتةٍ من بيوتنا، يسكن الكرسي هدوءَنا:
يرافق دفاترَنا وكتبَنا، ويصغي لصمتِنا المُترفّع عن الكلام،
يُشاهد تأملاتنا ويغرس بصمتِه في ممراتِ أفكارنا،
ونقول كمان: إنه الصديقُ الوفي الذي لا يسأل، ولا يتعب.
ليس الكرسي فقط خشبًا ومعدنًا بل هو مرآةٌ للحياةِ بكل تناقضاتها:
راحةٌ وألمٌ، انتظارٌ وانطلاقٌ، وداعٌ ولقاءٌ.
هو الشاهدُ الصامتُ على تفاصيلنا، وجسرٌ بين ذكرىَ الأمسِ وأملِ الغد.
ونختمُ بقوله: في حضرةِ الكرسي، نتعلم أنَّ الحياة ليست سباقًا لا متناهٍ، بل إنها فواصلُ استراحةٍ قصيرةٍ تسمح لنا بأن ننتظر، أن نحلم، وأن نعيد ترتيبَ قلوبنا قبل أن ننهضَ مجددًا.