ليس التعلق الزائد بحجم الحب... بل هو خوفٌ مستترٌ في أعماق النفس، خوفٌ من الهجر، من فقدان من نحب، من انقطاع الدفء الذي يسكن القلب.
في داخله طفلٌ صغيرٌ لا يزال عالقًا في زوايا زمن الطفولة، خائفًا من الوحدة، متروكًا بمخاوفه بلا معين، بلا ملجأ. ظن أن الأمان كلّه في وجود آخر، في استمرار علاقة، في وعدٍ لا ينتهي.
فأصبح هذا الطفل المشوّش يراقب، يلحظ، يترقب كل تغير في نبضات الآخر، كل همسة غياب، كل شاردة في العين. وأهمل نفسه، وظل أسيرًا لرهاب الفقد، يدور في حلقة لا تنتهي من قلقٍ وهمس، من انتظارٍ وحذر.
ليس عجزًا، بل جرحٌ قديمٌ لم يُشفى، فقدٌ وقع في الماضي، أو غيابٌ عاطفي ترك أثره، فارتسم في روحه صورة خوفٍ لا تزول، فاختزل الأمان في شخصٍ واحد، في وجودٍ واحد، حتى غدا مقدّسًا، ومهمًا أكثر مما يستحق.
وهنا تكمن المشكلة، في أن النفس لم تعلّم كيف تواسي نفسها، كيف تواطئ الألم، كيف تصنع الأمان من داخلها، كيف تُخرج نورًا يضيء عتمة الوحدة.
لا سبيل للتعافي إلا بفهم هذا الخوف، بمواجهته، وبالحضور الكامل إلى الذات، بتعلم مهارات تهدئة القلب، وتنظيم العواطف، ومراجعة الأفكار التي تلون عالمنا بألوان القلق والرفض.
نحتاج أن نعيد بناء صورتنا عن أنفسنا، أن نمنحها حقها من القوة، والثقة، والاستحقاق، أن نضع حدودنا بثبات وهدوء، أن نضبط توقعاتنا بنضج وحكمة، وأن نُنوع مصادر أماننا وقيمتنا، فلا نضع كل البيض في سلة واحدة.
وفي ذلك كله، لا ننسى الروح، ذلك المصدر الثابت الذي لا يتزعزع، الذي لا يخذل، ولا يغادر.
وفي العلاقات، لابد أن نعترف بأن خوفنا من الفقد قد يجعلنا أسرى تصرفاتنا، أن ننظر إلى الآخر بعين الذات لا بعين الحب، وأن ننسى أحيانًا أن نرى الدنيا من منظوره، فنحرم أنفسنا من الرحمة والتفهّم، ونغلق أبواب التواصل الرحيم.
فالاختلاف والاختلافات ليست أعداء، بل دروسٌ للذكاء الروحي، وبذورٌ للنمو والصفاء.
لذلك، التعافي رحلةٌ نحو أمانٍ داخلي لا يتزعزع، رحلةٌ تستحق أن تخوضها النفس، لترتوي من ينبوع السلام، وتجد في نفسها الحصن الذي لا يُهزم.