فنجان قهوةٍ ساحر، أعادني من حياة العزلة إلى دفء الوجود الاجتماعي، وانتشلني من غياهب اللاوعي إلى يقظة الذاكرة، والتعمق في حضن هذا المجتمع العظيم.
كنتُ، يا صديقي الجميل، أحلم بعالمٍ لم نعشه قط، وكأنما تأخر مجيئه آلاف السنين. عالم أشبه بتلك الحيوات التي تنبع من خيال الأدباء، وتنسكب في قصائد الشعراء، وتُرسم على صفحات المجلات والكتب. عالمٌ لا تطارده الأطماع، ولا تنهشه النفوس الجائعة.
إنها حياة، لا أملك مساحة كافية لوصفها كما يجب، لكنني أستطيع أن أقول إنها حياة خالية من الجشع، ومن شهوة التملك، ومن الصراع اليومي على لقمة العيش. كل ما تحتاجه النفس الإنسانية فيها، تجده في متناول اليد، بلا مقابل، بلا حساب، وبلا سجلٍ تجاري. الجميع فيها متساوون في الحقوق والواجبات، لا طبقات، لا امتيازات، ولا أبواب موصدة في وجه الفقراء.
الدستور في هذا العالم خُلق خصيصًا لمعالجة أزمات المهمّشين، ورفع الظلم عن الضعفاء من أبناء الطبقات المسحوقة. لا يسمح لظالم بثغرة، ولا لمستبد بفرصة ليتسيّد على رقاب الناس. الإنسان يُنظر إليه كما أراده الله لنا في كتابه الكريم:
"لا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى."
هنا، لا يُوزَن الناس بالمال أو النسب أو الجاه، بل يُوزَنون بتلك المسلّمات والقواعد الربانية التي أُقيمت بها السماوات والأرض.
أما نحن، يا صديقي، فواقعنا الحالي بات هشًّا لدرجة لا نستطيع معها الادعاء بأننا نعيش حياةً آدمية. بالكاد نحيا... بالكاد نُحسب من بني البشر.
صرنا نعيش كما لو أننا على هامش الحياة، في شوارعها الخلفية، نبحث عن إنسانيتنا بين ركام الفقر، وفوضى السياسة، وضجيج الحروب.
أصبح السؤال البسيط عن حق العيش بكرامة ترفًا، والمطالبة بالمساواة جريمة. نحيا في مجتمعاتٍ تُفصّل القوانين على مقاس الأقوياء، وتقصّ أجنحة الأحلام قبل أن ترفرف في سماء الأمل.
لكنني رغم كل شيء، ما زلت أتمسّك بفنجان القهوة ذاك، ليس لأنه أعادني إلى الناس، بل لأنه ذكّرني أن في الذاكرة بقايا عالمٍ يستحق أن نؤمن به، ونحلم بعودته... حتى وإن لم يأتِ.
ربما لا أملك قوة التغيير، ولا أدّعي أنني رسول خلاص، لكنني أؤمن أن الكتابة –كما القهوة– قادرة على إعادة الإنسان إلى إنسانيته. وكلما ضاقت بي الحياة، أعود إلى الورقة، وأسكب فيها بعضًا من روحي، علّ الحروف تفتح بابًا كان موصدًا، أو توقظ ضميرًا كان نائمًا.
في النهاية، لا نحتاج إلى معجزة. نحتاج فقط إلى القليل من العدالة... والكثير من الرحمة.