في الآونة الأخيرة، برز نشاط الإدارة الأهلية في المشهد العام، لكنّه بدا كظلٍ باهتٍ لدورٍ كان يومًا ما محوريًا في حياة الناس، لا سيما في القرى والأرياف. هناك، حيث تختلط بساطة العيش بعمق التقاليد، كان لرجل الإدارة الأهلية سلطة غير مكتوبة، لكنها نافذة، يجلّه الناس، ويحتكمون إليه في الشأن العام والخاص.
في قلب هذا النظام التقليدي، يقف شيخ القبيلة بوصفه أعلى سلطة أهلية في القرية. كان صوته يُسمع، ورأيه يُتّبع، لا لمجرد منصبه، بل لحكمته، وخبرته، وقدرته على قراءة الناس والأحداث. كان يلجأ إليه الأهالي لفض النزاعات، ومعالجة الخلافات، سواء كانت بسيطة أو معقدة. حتى حين تتجاوز المشكلة حدود قريته، ويشتبك فيها أطراف من مجتمعات تحت سلطة شيوخ آخرين، كانت تُعقد مجالس أهلية مشتركة، يجتمع فيها النظار والعُمد والمكوك لحلحلة القضايا قبل أن تُرفع – إذا استعصت – إلى الجهات الرسمية.
هذه المكانة لم تُمنح لرجل الإدارة الأهلية جزافًا، بل كانت نتاج تراكم طويل من الثقة، والتجربة، والإيمان المجتمعي بأن غياب الشيخ يعادل – في بعض المناطق – غياب الدولة. فالإدارة الأهلية، بجذورها الضاربة في عمق التاريخ، لم تكن وليدة ظرف طارئ، بل هي مؤسسة تقليدية مستقرة، لعبت دور الوسيط بين الناس والدولة، وبين الفرد والمجتمع.
غير أن هذا الإرث العميق بدأ يتآكل. فقد أغفلت الدولة – في العقود الأخيرة – دور الإدارة الأهلية، فحاصرتها داخل أُطر ضيقة لا تليق بتأثيرها الحقيقي، فجعلتها أداة للتعبئة الانتخابية حينًا، ووسيطًا هشًا في مجالس الصلح القبلية حينًا آخر. حتى هذه المجالس، أُقصي عنها شيوخ القرى، ولم يبق فيها سوى النظار والمكوك، بينما بات الشيخ مجرد عنوان بلا مضمون، يُعيّن في منصبه دون أن يكون له حيلة أو رأي، فيتفرّج على الأزمات وهي تتكاثر دون أن يملك مفاتيح الحل.
اليوم، تطرح المجتمعات الريفية أسئلتها الصامتة:
هل ما زال الشيخ شيخًا؟
وهل تحوّلت الإدارة الأهلية من منظومة لحفظ التوازن إلى ساحة نزاع على نفوذ هش؟
وهل يمكن بعث هذا الإرث الثقافي بروح جديدة تحفظ تاريخه، وتعيد له فاعليته، دون أن يُستخدم كورقة سياسية أو مطية لأطماع السلطة؟
في خضمّ الحرب والتحوّلات، يبدو أن الإجابة لن تكون سهلة، لكنها تظل ضرورية.