في زمنٍ تتسارع فيه خطى الحداثة، ويشتد فيه وقع التطور الرقمي والتكنولوجي في مختلف المجالات، برزت الصناعة كأحد أبرز القطاعات التي شهدت تحوّلاً جذريًا. فمع تطور الهندسة الصناعية ودخول الآلات الذكية، لم تعد الماكينات مجرّد أدوات مساعدة، بل أصبحت تحلّ محل الإنسان في كثير من المهام، خاصة تلك التي كانت تعتمد على الجهد العضلي واليدوي.
لقد أعادت الهندسة الحديثة صياغة فكرة الإنسان القديم عن العمل، فابتُكرت آلات وماكينات لا يكاد العقل التقليدي يتصورها. هذه الآليات لم تكتفِ فقط بتقليل الحاجة إلى العمالة، بل قدمت حلولاً أكثر كفاءة من حيث الوقت، والجهد، وجودة المنتج.
ولنأخذ الزراعة كمثال حيّ. فاليوم، بفضل آلة مثل "الكومباين"، تُختصر عمليات الحصاد التي كانت تستغرق أيامًا في ساعات قليلة. هذه الآلة تقوم بقطع المحصول، ودَرْسه (أي فصل الحَب عن السنابل)، وخياطة الجوالات، بل وحتى نقلها إلى الجرارات، كل ذلك بجودة ودقة يصعب تحقيقها يدويًا. في المقابل، كانت ذات العملية – كحصد الذرة بالمنجل، ودقها بالعُود، وتجميعها وخياطتها – تستلزم عددًا كبيرًا من العمال، ووقتًا أطول، وتكلفة أعلى، ناهيك عن الجودة التي كانت تختلف باختلاف أداء الأفراد.
ومع اتساع نطاق استخدام هذه التكنولوجيا، بدأت تتلاشى تدريجيًا بعض المهن التي كانت تُعدّ أساسية لعقود، بل لقرون. فعلى سبيل المثال، في الأسواق والمخازن، أصبحت الرافعات الآلية تقوم برفع السلع ونقلها، وهي مهام كانت تُوكل إلى "العتّالة"، أي عمال اليوميات.
إننا نشهد مرحلة انتقالية تعيد تشكيل سوق العمل كليًا، وتفرض تحديات كبيرة على أصحاب المهن اليدوية الذين يواجهون خطر التهميش والبطالة. فالتقدم التكنولوجي، على الرغم من فوائده الجمة، يرسم مصيرًا غامضًا للعمالة اليدوية، ما لم تترافق هذه التحولات مع خطط تدريب وتأهيل تضمن دمج الإنسان في معادلة التطور، لا استبعاده منها.