هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

 arhery heros center logo v2

                    من منصة تاميكوم

آخر الموثقات

  • على سبيل التحذير والتنبيه: منشور خطير عن النبي | 2018-03-26
  • اليتيم المربي | 2015-02-14
  • وجهة نظر إيمي | 2007-05-03
  • لست جديرا بالبديل | 2021-01-23
  • طاقة الحياة | 2017-03-22
  • مفارقة الحلم والواقع في "طقوس المتعة" | 2021-05-16
  • ملكة الموڤ | 2024-05-05
  • إلى أميرِ كوكبي.. الجزء الثاني | 2024-04-17
  • الطبقة المثقفة المتوسطة | 2024-05-13
  • انت السبب ايتها المرأة | 2024-05-13
  • مُجرّد ذكريات | 2024-05-12
  • اللقاء الرابع مع د. عبد الحليم محمود في معهد نبروه | 2024-05-13
  • تفكّرتُ في العقل | 2024-05-06
  • وأفترقنا  | 2020-05-12
  • بحرا من ألم | 2024-05-13
  • تبوح عيناي | 2023-05-13
  • اللقاء الثالث مع الدكتور عبد الحليم محمود  | 2024-05-13
  • مش هلومك | 2023-05-12
  • الأرڪان السبـع للاتـزان النفـسي  | 2024-05-13
  • دمدم | 2023-06-29
  1. الرئيسية
  2. مدونة د حنان طنطاوي
  3. مذكرات كاميرا الصفحة الثانية

 

"من كتر الحب لقتني باحب"

 

 لم أستطع وضع هذه الصورة في معرض المسابقة، لم يطاوعني قلبي أن أقامر بها على طاولة النصوص والاحتمالات، برغم إلحاح "سامي" عليّ كي أتراجع عن قراري، وأُمكّنه وزملاءه من الكتابة عنها، أدهشني إصراره الذي اعتمد فيه بعضا من التوسل؛ لا يتناغم مع ملامحه، ومع ما توحي به من استغناء وجدية! برز فجأة طيف الطفولة على وجهه يبعت ما شرب من حوادث الزمن وصداماته.

 

 جديته وطفولته تتنازعان حتى في نصوصه، في تعاملاته وفي تعليقاته اليومية، أراقب بحذر إعجابي بكتاباته وتأثري عموما بآرائه، لا أعلم إن كان هذا الإعجاب بسبب تشابه انتماءاتنا وقناعاتنا الفكرية، أو أنني أتعلق بشخص "سامي" لذاته، أتوق لقفشاته الساخرة، خاصة تلك التي يلقيها ويهرب دون أن يضحك، ليفجر في باطني ضحكات صاخبة، كنت قد نسيت أني أمتلك هذا الكم منها!

 

 أحب فيه أنه وجد خلطته للتعامل مع تحديات الحياة ورتابتها، يعرف كيف يكيل المقادير بدقة وفن، ولكنه يبدو دائما كمن يفتقد طبقه الرئيسي، برغم أن مائدته عامرة بالإنجازات والطموحات، والمعجبين والمعجبات! فهو من القليلين الذين اشتركوا في هذه المسابقة لدعمها؛ بعد علمه أني وهبت ريع إعلاناتها لدعم قضايا اللاجئين. لم تكن المسابقة أو الجائزة تعني له الكثير، بجانب ما لديه من جماهيرية، وتقدير كل من يعمل في مجالي النقد والكتابة بشكل محترف، لذلك يعتبره المتسابقون أستاذا لبقية المجموعة، وليس زميلا عاديا لهم، وهو بدوره يعتمد في تعليمهم منهج النمذجة، فيعزز أستاذيته بتعامله معهم كمجتهد دؤوب ومخلص للفكرة، وليس بصفته الناصح أو الواعظ الأمين. 

 

-لماذا تريد الكتابة عن هذه الصورة بالذات؟

 

- لا أعلم السبب تحديدا، ربما لما أشعر به من انحياز لهذه الفتاة التي في الصورة، فتاة اختارت أن تظهر في الصورة كظل، وهي تقف أمام (بوستر) كبير لرجل، حرصَت أن يبرز هو واضحا في منتصف الصورة، بينما تظهر هي بظلها فقط، واقفة أمامه، في نصف انحناءة ، تضم كفيها على شكل قلب؛ كرمز للتعبير عن حبها له، في لغة جسدها وفي إخفائه، ما ينبئني بشغف كبير!

 

 في هذه الصورة سر يجعلني أشعر بطاقة للحب والإيثار والفداء! يأسرني أيضا شكل البيت الظاهر في الخلفية، بلونيه الأبيض والأزرق، هل التقطتِ هذه الصورة في اليونان؟ 

 

أجبته بصوت يستدعي الحياد في نبرته:

-أنت تستدرجني للبوح بمعلومات عن الصورة، وتحفزني بوصفك الرائع للفتاة، ولكن ذلك لن يغير قراري، لن أعرض هذه الصورة في المسابقة، ولن أحكي قصتها أبدا على الملأ، كما أنني لا أطيق فكرة أن ينهشها كل منكم بقلمه، وفق رؤيته وخياله، لن أتحمل طمس وتشويش ما أكتنزه فيها من مشاعر ومواقف.

 

- حسنا..سأستسلم، لكنني لن أرفع الراية البيضاء بالكامل، قبل أن تخبريني بسرها، وسبب كل تلك الخصوصية التي احتلتها في وجدانك! 

 

أسعدني إصراره على معرفة قصة الصورة، كنت بحاجة لاسترجاع بعض اللحظات التي قضيتها في هذه الرحلة، ولا أعلم إن كان ما يحفز هذا الخاطر أني سأستعيدها معه هو، أو أنها رغبة مستقلة زرع بذورها تفرد "ديالا" بطلة الصورة، وكل ما أتنسمه من جمال ومتعة، كلما زرت مدينة "سيدي بوسعيد" التونسية! 

 

****************************

 

 "بالله يا حمام سير واعزم":

لم أتوقف كثيرا عند دهشة "سامي" التي بدت على ملامحه عندما علم مكان الصورة؛ لم يصدق أن بلدًا عربيًا به مثل هذا التناغم الخلاب في المباني؛ اكتست جدرانها بلون النور، وغرقت نوافذها وأبوابها في لون البحر والسماء، يطل في جانب الصورة من ورائهم، سحرًا خالصا، تجسد في التقاء السماء مع البحر، ونور الصبح الذي انعكس على الصورة وعلى كل من يراها.

 

كنت في "تونس" أقوم بتصوير فعاليات مهرجان "قرطاج"، الذي نجحت عدة مرات في التقاط صور به لم تكن مألوفة، عادة ما يهتم المصورون بالفنانين والنجوم الكبار، أما عدستي فلم تكن تبرق إلا قبالة عين تهيم سارحة أثناء وصلة فنية يقدمها فنان مثل "أسامة فرحات" مع أغاني "سيد درويش"، (صائدة النظرات الشاردة)، هكذا كانوا يلقبوني في المجلة التي كنت أعمل لحسابها.

 

بمجرد أن تطأ قدمي أرض تونس، أستقل القطار إلى "سيدي بوسعيد"، أدمنت ما أشعر به هناك من ألفة وبهجة، برغم إجهادي خلال التنقل بين أزقتها وشوارعها؛ التي رصفت على مرتفعات جبلية، فأتذكر دائما وأنا هناك أني بحاجة لاكتساب مزيد من اللياقة، أتذكر أيضا أنه يتوجب عليّ إعادة النظر في مفهوم المساحات، واقترانها الأبدي بالأرقام، يتجلى لي ذلك وأنا أطالع شجرة مهيبة؛ غُرست في حديقة بيت لايتجاوز 120 متر مربع -بحسب آليات تقديرنا للمساحات- تُخرج أعلى جذعها، وبعضا من أغصانها، وأوراقها، من سور المنزل، وكأنها تتوعد من يفكر في اقتحامه، بجانبها تتدلى سلالسل الياسمين، مستلقية بارتخاء كامل على جدران البيت من الخارج، لتصحح لدي الرسالة، وتهمس لي بعبارات ترحيب عطرة، يسري عبقها في عمق خاص غير مفهوم من شهيقي، فأتمنى من كل قلبي لو أعيش يوما في بيت مثل هذا البيت؛ الذي احتضن كل هذا النماء! ربما بات ضروريا أن أتوقف عن الترحال والسفر، علني أنجح في الاعتناء ببعض شتلات من الفل والريحان، لأهنأ بعبيرها في شرفة منزلي.  

 

 زيارتي الأولى لتونس، ولضاحية "سيدي بوسعيد"، كانت في شهر رمضان، خرجت من الفندق بعد الإفطار، لأتعرف على معالمها، ففوجئت بواحد من الشوارع يكتظ بالسياح؛ يتكالبون على تصوير مجموعة من المنشدين، يرتدون جببا بيضاء، يمسكون بأيدي بعضهم البعض، ويتمايلون بتناغم على إيقاع الدفوف التي يدق عليها بعضهم، كانت رائحة البخور تملأ المكان حين ظهر من وسط الحشود رجل مسن نصف عار، يقطع أوراقا مليئة بالشوك من إحدى شجيرات التين الشوكي، ثم ألقاها على الأرض ونام بظهره عليها، وقفز بعدها واقفا وكأن شيئا لم يكن، حاولت الوصول لنقطة أكثر ارتفاعا على جانب التل، كي أتمكن من من رؤية المشهد كاملا وتسجيله (فيديو)، بدت لي القصائد التي ينشدونها أذكارا ومديحا للنبي، ولكني لم أستطع تمييز الكلمات.. 

 

-ماذا يقولون؟ 

 

لفظت السؤال في الهواء دون وجهة، كنت أحدث نفسي..

 

-العقل طار بلا جنحان

سافر مشى وخلاني

أمان أمان أمان

بالله يا حمام سير واعزم

خد الطريق و اتحزم

 

إنها واحدة من قصائد العيساوية، التي ينشدونها في خرجة "سيدي بوسعيد"، ويقدمون فيها طقوسهم التي ترمز للإيمان والتحصين، وقهر الطبيعة والألم.

سكتت لحظة ثم تابعت وهي تضحك بصوت عال:

 

_ مع أني استطيع إثبات مقدرتي على قهر الطبيعة والألم، دون كل هذا العناء! 

 

كانت هذه "ديالا" تجاوبني وهي تبتسم، وترمقني بنظرة ودودة، وكأننا صديقتان منذ أمد طويل، بينما هي المرة الأولى التي أراها فيها.

 

لم أفهم كل ما قالته عن الطقوس الصوفية ومعناها، لكني أدركت فورا ما تعنيه بقدرتها على قهر الألم، "ديالا" من قصار القامة الذين اشهرت تسميتهم ب (الأقزام) أستطيع تخيل حجم ماتعانيه في عالم حبيس الأرقام والقياسات ال (ستاندرد).

 

قمت بدعوتها لنشرب الشاي معا في مقهى قريب، وسألتها عن "سيدي بوسعيد"، فعرفت منها أنه ولي صالح اسمه "أبو سعيد الباجي"، تتلمذ على يده كثير من الأئمة علق منهم في ذهني "أبو الحسن الشاذلي"، ثم سألتها عن سبب اقتصار ألوان المباني على اللونين الابيض والأزرق، وإن كان ذلك لسبب جمالي؟ فقالت:

 

-اللون الأزرق نلونوا بيه الشبابيك والأبواب، خاطر يبعد الناموس، لإنه غامق، والأبيض هو لون النور ننجموا يروحوا عليه هوا.

 

أبهجتني المعلومة، وفكرت لماذا لا نطبقها في جميع البلاد، ثم سألتها مداعبة في محاولة لمدحها بشكل غير مباشر، إن كان صحيحا ما نسب ل "ابن خلدون" عن سبب تسمية "تونس" بهذا الاسم لأن أهلها تتوفر فيهم كل صفات الونس، وكرم الضيافة، والإقبال على الحياة، فأجابتني أن ماتذكره من دراستها أن اسمها كان "أفريكا" وهو ما أصبح بعد ذلك اسما للقارة كلها، بينما اسم تونس هو تحريف لاسم "تيناست"، وهو تجمع أمازيغي قديم، سمي كذلك نسبة لامرأة تحمل نفس الاسم وكانت تحب زوجها الذي يدعى "أونيس" وأنجبت منه عددا كبيرا من الأبناء والبنات، فكان هذا الاسم رمزا للخصوبة.

 

كانت تتكلم بنبرة متوسطة، ثم علا صوتها فجأة وقالت وهي تضحك:

 

-عليش تسأليني، آني مانخممش التاريخ، آني نخمموا الهريسة بس، يعطيك الصحة.

 

لم أفهم حينها جملتها، بشكل كامل، لكني تأكدت أن رواية "ابن خلدون" هي الأقرب للدقة، عندما دخلت منزل "ديالا" ، بعد أن دعتني لتناول الإفطار مع أسرتها، فكانت لحظات عامرة بالضحك، تناولت معهم أصنافا لذيذة لم أعرف منها الكثير، لكن أكثر ما ميزته في نكهاتها الشهية، هو طعم الشطة الحار! 

 

راقبت "ديالا" يوما وهي تعد الهريسة التي يضعونها ك (صوص) على معظم أكلاتهم السريعة، فذُهلت من كم الوقت والمجهود الذين بذلتهما في غسل، ونقع، وتخلية ثمار الفلفل الحار من البذور، ثم طحنها مع الثوم والبهارات وزيت الزيتون، حتى تنتهي من إعداد الهريسة، قلت لها بتعجب:

-من أين لك بكل هذا الصبر، كل ذلك من أجل إعداد صلصلة إضافية لتبهير الأكل وتحسين طعمه؟!

 

فقالت لي ما معناه أن البهار هو روح الأكل، أما مكوناته الأساسية فهي جسده، تخيلي أن يطلب منك أحدهم تذوق جثة دون روح! ثم إن الفلفل الحار هو دعوة صريحة للانحياز للحياة ولتحمل لوعتها، الحياة لا تعط الكثير للمهزومين،الخائفين، الذين يخشون نارها، ووهجها، ويقفون على الحياد مكتفين برشة من الفلفل الأسود! 

 

لم تكن ضحكاتي الصاخبة، وثرثرتي مع "ديالا" بهم أي شيء من الافتعال، كنت أحب قضاء الوقت معها بكل تفاصيله، نسيت بعد ثاني جملة بيننا أن لديها ما قد يجعلها مختلفة عن معظم من أقابلهم، لم أفكر أبدا في حجم ما تعانيه نفسيا أوعضويا لتسيير حياتها، دائما ما يكون حضورها طاغيا، طامسا لأي ملمح من ملامح الحزن أو الضعف، حتى أتت لحظة سألتها مباشرة ضمن ثرثرة فتاتين تتكلمان دون قيود، إن كانت تحب أو مرتبطة؟

 

 بدلا من أن تجاوبني حكت لي موقفا حصل معها في المرحلة الثانوية، حين حفظت دور شخصية (سنو وايت) وقدمتة في تجربة للأداء أمام أساتذة النشاط المسرحي، ثم فوجئت بأنها ضمن المقبولين في الفريق ولكن عن دور (تيبسي) وهو أحد الأقزام السبعة! 

 

  كانت تتحايل على احتياجاتها ومعاناتها بتفاصيل من البهجة الخالصة، والمحبة التي تغدق بها على الجميع.

 

(لا أحد يمتلك كل شيء، كلنا لدينا تشوهاتنا ونقائصنا، هناك من عرف كيف يخفيها، وهناك من أرغمته الحياة على إظهارها، لكن الملوك االفعليين هم من أدركوا هذه الحقيقة، فتسامحوا وتناسوا قسوة العالم.)

 

قرأت لها هذه العبارة ضمن كتاباتها على حساباتها في (السوشيال ميديا)، لاحظت موهبتها في الكتابة، فاستأذنتها أن أرسل للمجلة بعضا مما تكتبه، ثم تطور الأمر لأن تصبح مراسلة رسمية للمجلة، وهو الأمر الذي وطد صداقتنا اكثر.  

***************************

من كتر الحب لقتني باحب:

كنت جالسة في مقهى "سيدي الشبعان" أنقل الصور من الكاميرا إلى ال (لاب توب)، وأنهمك في فرزها وتعديلها، وأنا أمتع كل ذرة من حواسي بعطور الورود ونسيم البحر، وأملا ناظري بذلك الذوبان بين زرقته وخضرة المسطحات الواسعة من حولي، أرض احتضنت الورود والأوراق والثمار في تنوع وتجاور مدهش، فتجد زهور البنفسج على رقتها، والتمر على شموخه، وبراعم البرتقال على حيويتها يتشاركون شجرة (الصبيرة) بقسوتها وأوراقها الشوكية نفس الرقعة من الأرض!

 

أرتشف شاي الصنوبر على مهل، وأتنشق نعناعه، بينما أستمع لصوت "علية التونسية" وهي تغني "ياللي إنت روح الروح" ثم تتبعها أغنية "سيرة الحب" ، مر في مخيلتي صور سريعة لما سمعته عن رحلة "علية التونسية" من "تونس" إلى "مصر"، وكيف كان لتشجيع "أم كلثوم" وإطرائها على صوتها -عندما سمعتها أول مرة بتونس- أكبر الأثر الذي جعل "علية" تنتقل إلى "مصر" بالفعل، لتُعرف بأغانيها الشهيرة مع "حلمي بكر" و"بليغ حمدي"، كانت الأفكار والصور والنغمات يتأرجحن بالتناوب في رأسي حتى استغرقتني فكرة تأثير الكلمة في حياة الفنان، أو أي إنسان، كيف يمكن لكلمة ثناء أن تغير مصير وحياة شخص، وكيف يمكن لها أيضا أن تهدمه، خاصة لو كانت نفسه هشة لا تجد ما يحميها!، تبددت جميع الأفكار فجاة ولم يبق سوى صوت "الست" وهي تغني المقطع الذي أحبه:

 

أنا خدني الحب لقيتني باحب

 وأدوب فى الحب وصبح وليل على بابه

يا اللى مليت بالحب حياتي أهدي حياتي إليك

روحي.. قلبي.. عقلي.. حبي 

كلّي مِلك إيديك

صوتك.. نظراتك.. همساتك شيء مش معقول

شيء خلّى الدنيا زهور على طول

 وشموع على طول

الله يا حبيبي على حبك وهنايا معاك

الله يا حبيبي الله الله

ولا دمعة عين جرحت قلبي ولا قولة آه

ما بقولش فى حبك غير الله

الله يا حبيبي على حبك الله الله

من كتر الحب لقيتني بحب

 

أفلت صوتي مرتفعا رغما عني وانا أقول :

الله.. الله...

تقاطعت الثالثة مع صوت "ديالا" وهي تقول لي:

 

-ع السلامة

 

وصَلَت أخيرا بعد أن تأخرت علي كعادتها، لم تكن هذه المرة بنفس إشراقتها وبشاشتها التي اعتدت أن أراها بهما.

 

سألتها مستنكرة عن سبب شحوبها؛ توقعت أن إجدها في منتهى الحماس، حيث سيتسنى لها أخيرا مقابلة نجمها الذي تهيم به، ولا تتوقف عن الحديث عنه، والهوس بمتابعة أخباره وأعماله، منذ بدء مشواره وحتى اليوم.

 

 اختارتها المجلة لتحاوره على هامش تغطية المهرجان، فهي مشاركته الأولى فيه، بعد فوزه بالمركز الأول في البرنامج الجماهيري الشهير، والذي يعتمد على تصويت الجمهور. 

 

أذكر ليلة فوزه باللقب حين كلمتها لأهنئها، كانت تبكي وتصرخ وتزغرد، استغربت كثيرا هذا التدفق في مشاعرها، أعرف أن البعض قد يغالي في الشغف بالمشاهير، لكن ذلك ليس من شيم "ديالا" التي لا تقيم وزنا لأي شيء شكلي أو مادي.

 

بالإضافة إلى أنه لم يكن مشهورا لهذه الدرجة آنذاك، فوجئت بها تنشئ منتديا باسمه، وتحفز الناس على التصويت له، تقتطع فيديوهاته دونا عن باقي المتسابقين، وتضعها على (يوتيوب)، تفتح التلفاز أربع وعشرين ساعة، لتتابع البرنامج الذي اعتمد أسلوب تصوير الواقع، ليصور المتسابقين في حياتهم اليومية، طوال فترة المسابقة، بينما يقيمون في الأكاديمية التي خصصت لتدريبهم، وبذلك يتعرف الجمهور على شخصياتهم بجانب فنهم، كانت تتابعه ليل نهار، تنام وتستيقظ في نفس أوقاته، حتى أنها خصصت الكثير من الوقت لإدارة المنتدى باسم مستعار إنجليزي، معناه"عبير وردة" .

سألتها عن سر اختيار ذلك الاسم، قالت إنها تحب معنى اسمها أكثر من اسمها نفسه، ثم إن ذلك سيعطيها مساحة لدعم "نادر" –الفنان الذي تحبه- بأريحية؛ دون أن يتعارض ذلك مع ما تكتبه من مقالات وتقارير، توقعها باسمها الحقيقي.

 

سألتها مرارا عن سبب كل ذلك الانتماء له، هل هو للموهبة والقوة في فنه، أو لشخصيته وآرائه التي تعكس وعيا خاصا؟ أو أنه تعصبها لابن بلدها -كونه تونسيا أيضا- وما الذي ستجنيه من كل ذلك التوحد معه، والدعم لمسيرته، إن كان لا يعرفها، ويعاملها كأي معجبة من معجباته؟!

 

كانت في كل مرة تعرف كيف تَزُوغ من الإجابة، وتغير الموضوع، حتى قابلتها اليوم وسألتها عن سبب ضيقها، فقالت بصوت متأثر يقاوم البكاء:

 

 أنا أنتمي لنادر بغض النظر عن كونه فنانا موهوبا، أو لا، وأيا كانت لغته أو بلده، أشعر بروحه توأما لروحي، لا أعرف كيف أصف حالة كهذه، أخاف عليه كابني، أطير مع موهبته كعاشقة، أنبهر بفنه كأصغر تلميذة يفط قلبها بين ضلوعها عندما تبصر مُعلّمها الذي تحترمه، وأحيانا ما أتوق للطم غيظا وخوفا، حين ينطلق بتصريحات بإمكانها أن تفتح عليه أبواب جهنم!

أرى فيه ذاتي التي تحررت، من العجز والمرض الوراثي، وانطلق ليغرد بصوتي ونبضي فيملأ العالم بهجة ونورا!

 

-لكنك لم تترددي منذ اللحظة الأولى في دعمه، وهو ما يجعلني أتعجب، وتزداد حيرتي الآن وأنا أسمعك، كل ماذكرتيه، يفترض به أن يجعلك سعيدة للغاية؛ كونك ستقابليه أخيرا وجها لوجه.

 

- أعرف "نادر" قبل اشتراكه بالبرنامج، التقيته صدفة في إحدى ال(كافيهات)، بتونس، كنت قد أنهيت لتوي مقابلة عمل كمندوبة مبيعات، وعرفت أنهم لن يقبلوني، بسبب وضعي، كنت جالسة على واحد من المقاعد المرتفعة أمام البار، ووصل "نادر"، الذي رحب به الساقي، وبدا من الود في حديثهما أنهما صديقان، لم أسمع كل مادار بينهما، لكن انتبهت على جملة يقول فيها ما يفيد بسفره ل"لبنان" لاستكمال مراحل المسابقة، وذلك بعد أن تم قبوله في المرحلة الأولى، التفت نحوي فجأة وقال:

 لقد نويت أن أعزم أول فتاة جميلة تقابلني على أي مشروب تختاره، بركة الأخبار الباهية، لذلك أي طلب ستطلبه هذه ال (مدموزيل) الجميلة سيكون على حسابي.

 

كان يتكلم وهو ينظر في عيني باكتراث شديد، كانت المرة الأولى التي أشعر بنفسي فيها مكتملة، أحسست فجأة أن العالم طيب، مليء بالنغم والشعر والورود، هناك من لا يعرفني وبرغم ذلك يعتبرني فتاة جميلة، دون شفقة أو تكلف أو إحراج، أو استغلال! 

وهبني لحظة، ربما لم يكن يقصدها، ربما نسيها تماما بعد ذلك، لكن هذه اللحظة أنجبتني للحياة من جديد، وعندما رأيته في البرنامج كدت أجن من الفرحة!

 

-حسنا ولماذا لا تُجَنين الآن أيضا، وأنت ستقابلينه حقيقة؟!

 

-لا أقوى على المغامرة، لن أستطيع.

 

شعرت بحنق شديد من استسلامها وقلت لها ببعض من الغضب:

-لا أفهم سبب كل هذه السلبية الغريبة عليك "ديالا"، أنت فتاة ذكية وموهوبة وحققت بالفعل نجاحات لا يُستهان بها، التقزم لم يكن يوما في رقم نقيس به أطوال أجسادنا، التقزم الحقيقي هو في عجز أنفسنا عن مواكبة طموحنا وأحلامنا!

 

- للحقيقة معادلات أكثر تسلطا من روحه الشفافة، وروحي الحرة الهائمة به، إنه مقيد بفنه، وجمهوره، والتزاماته، وعقوده، وأنا برغم استعدادي لبذل كل ما أستطيع لأسعده، لكني لا أقوى على المغامرة بلحظة أرى في عينيه ما يذكرني من جديد أني أحيا في عالم العمالقة، أو أن أجد نفسي مضطرة كي أنفرد به ولو للحظات، لمزاحمة المئات، أكره الزحام، لا أجيد التدافع وضرب الأكتاف، خاصة أن كتفي أقصر من اللازم، وتكون في كل مرة احتمالات سحقي هي الأكبر، ربما بعد فترة أكثف فيها خبراتي، ورصيدي المهني، أستطيع تخيله وهو ينظر إلي في نفس مستواه، كما رآني أول مرة صدفة، حتى ذلك الحين أفضل أن أظل هكذا.. ظل، أو ملاك لا يلمسه، لكنه يشعر بعبيره ودعمه وقربه، أرجوكِ ساعديني في الاعتذار عن تلك المهمة بشكل لائق.

 

أشرت عليها أن ترسل له رسالة على حسابه، تعتذر له عن الحضور وتضمنها أسئلتها وتنتظر إجاباته مكتوبة، أسعدها رده عليها، والذي اتضح فيه أنه يتابع مقالاتها، وأنه كان يتمنى لو يراها. هذا وهو لم يعرف بعد أنها نفسها "عبير وردة" التي لطالما دعمته في السابق!

 

ظلت لوقت طويل تحدثني عن كرهها لخوفها، وعدم قدرتها على المغامرة بجمال هذه الحالة الروحية التي تعيشها، وتستعين بها على حياتها القاسية، ثم برقت عيناها أخيرا كما كنت أعهدهما دوما وقالت لي: وجدتها!

 

هاتفتني في الفجر وطلبت مني أن أجهز الكاميرا، وأن أقابلها مع مطلع الشمس، قابلتها على التلة قرب الشاطئ، فسألتني أن أصور ظلها أمام صورته، حيث سيستطيل الظل قليلا بفضل شمس الصباح، وعندما طبعت لها الصورة كتبت خلفها بخط يدها:

( لا تتوقف عن بث الضياء الذي يجعل ظلي أجمل)

المخلصة لك دوما: عبير وردة

التعليقات علي الموضوع
تعليق واحد حتي الآن
  • الله  سرد هادئ وسلس اخذني معه إلى السحاب حيث ترتقي هذه الملاك وتستقر رغم كل  التحديات تحياتي لقلمك الرائع????
المتواجدون حالياً

478 زائر، و2 أعضاء داخل الموقع