هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

 arhery heros center logo v2

                    من منصة تاميكوم

آخر الموثقات

  • يومٌ لانِهائيّ  | 2024-05-14
  • روح يا حمام لا تصدق أم هيام - هنا الفيوم - وادبحلك طير الحمام | 2024-05-14
  • نداء لمراعاة حق الثقافة العلمية المهدور | 2024-05-14
  • العشق صانع الأضداد في حياة أبي العتاهية | 2007-02-05
  • الشهر العالمي للتعربف بارتفاع ضغط الدم | 2024-05-14
  • مات ومسمعهاش | 2024-05-14
  • معارك الروح و الجسد | 2024-04-25
  • الباب الموارب | 2024-05-02
  • تحت ظلال الزيتون | 2024-05-04
  • ناسا تكتشف كوكب جديد | 2024-05-14
  • وسلامٌ على الباقيين | 2024-05-04
  • أكثر ما يريح قلبي | 2024-05-12
  • ابنتى لا تقرأ كتبى | 2024-03-03
  • لماذا هرب الشباب إلى الشات؟ | 2024-03-13
  • عربات القهوة فى شوارع القاهرة | 2023-01-20
  • أخلاقنا الجميلة …… خطوة جاءت فى موعدها | 2022-10-11
  • الحياة ليست مكتب تنسيق | 2022-08-25
  • ماذا حدث لقلوب المصريين؟ | 2022-07-29
  • كُلْ عيش | 2022-06-24
  • بناء الإنسان لبناء الأوطان | 2022-07-08
  1. الرئيسية
  2. مدونة د حنان طنطاوي
  3. جسدي ممدد على الطاولة.. بينما تنبت المعجزة..

 

 جسدي ممدد على الطاولة، طال وقت العملية أكثر مما كان مقدرا لها، بدأت جرعة المخدر في التناقص، آلام مهولة أشعر بها أرغمتني على القيء مرتين، أحاول التماسك، كي لا يفقد الطبيب أعصابه أكثر، كان متوترا وهو ينهر الممرضة بصوت حاد؛ يأمرها أن تبتعد، ويمد كلتا يديه في أحشائي التي فتحها بمشرط الجراحة!

***************************

 

قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة:

 

  _(هتبقي ماما واحنا هنلعب ولادك.)

 

لم تكن لعبة نمارسها لدقائق أو لساعات، كانت تفاصيلا لحظية نلضمها في عقد سبحة لا تنتهي من الإيماءات، والنظرات، والكلمات، والأفعال، تسافر أمي -مضطرة- بسبب العمل، فأشعر أن قلبي تغزه السكاكين جراء افتقادها، وإحساسي بالمسؤولية، كان الوجع يزداد كلما بهتت رائحة عباءتها بعد مغادرتها للبيت.

 

 لو طُلب مني أن أصف الأمان فسأتخيله صوت أمي، وهي تقول عندما يأتيها أي منا مهموما : (ولا يهمك من أي حاجة، كل حاجة لها حل)، وهمساتها وهي تدعو لنا في الصلاة وبعدها، سأرسمه وجهها عندما أراه بعد عودتها من السفر، سأصوره تربيتة أناملها على أكتافنا قبل النوم؛ وهي تعدل لنا الغطاء، وسأنحته حضنا، كحضنها الدافئ حتى في عز الشتاء.

 

 ( يا ماما، ماتقلقيش علينا، ركزي إحنا كويسين)

 

أغلق الهاتف، ثم أستدير لأخوتي، أطمئن على إفطارهم، وأوزع مهام (ترويق) البيت قبل أن تصل أمي من العمل متعبة. كان وجودي وصخبي يشتتهم عن غيابها، لكن لا شيء كان يهون علي، سوى استحضار (ماما)، وانهماكي في أمومتي لأخوتي، كنت طفلة تعبر عن حبها لأمها -العظيمة- بمحاكاتها لها طوال الوقت.

 

*****************************

 

في بيت أبي ببنها، صباح يوم الخميس الموافق الثاني من سبتمبر لسنة ٢٠١٠م، وهو اليوم الثالث والعشرون من شهر رمضان لسنة ١٤٣١ه، تقول لي بصوت يفيض حنانا:

 

-(يلا يا حبيبتي بابا مستني في العربية، جهزت لك الشنطة وكل حاجة تمام) 

 

-(يعني كان هيجرى إيه يا ماما لو كان الدكتور خلاني أستنى للعيد؟! حتى كان يبقى التاريخ ٩/٩ كده أشْيَك)

 

-(تبتسم وبصوت ساخر: صدق اللي سماكي مجنونة، يلا عشان مانتأخرش على معاد المستشفى) 

 

****************************

 

 قبل ذلك بأكثر من ثمان سنوات: 

 

(ممكن لما حد يقول حاجة مضحكة، تضحكي الله يخليكي، وماتكسفيش اللي قدامك!)

 

( طب ما أنا باضحك، وباتعامل مع كل زمايلي بذوق، فيه إيه مالك يا بت؟!)

 

مع صديقتي المقربة، أنسى قواعد الكلام، وأترك نفسي على سجيتي، امتزجت روحانا منذ أول حوار بيننا، جمعتنا ضحكاتنا الساخرة من عدم فهمنا للمحاضرات، جمعتنا غربتنا، مرة ونحن ننشأ في بلد غير بلدنا، كل مظاهر الحياة فيه كانت ترتدي النقاب، ومرة ونحن نعاني كي نندمج مع فتيات وشباب في سننا، لكنهم تربوا في بلد لا تنام، ولا تتوقف عن الغناء، بلد يوم فكرت أن ترتدي الحجاب، اشتبك أهلها، وهم يتساءلون إن كان عن اقتناع!  

 

حفرت مع صديقتي يدا بيد، طريقنا في الاندماج مع الواقع الجديد، شيئا فشيئا، لكنها سبقتني قليلا، أو ربما أنا من لجمت خطواتي. استنكرت نصيحتها لي، خاصة و أنا أرى أني ناجحة اجتماعيا، فقد كنت في اتحاد الطلبة، وأشترك في ما أستطيع، من أنشطة ثقافية وفنية، ولا شيء يثنيني عن التعامل مع الجميع.

 

-(بتضحكي وتتعاملي مع الكل، آه، بس زي العسكري الأخضر، باحس إن زمايلنا بيخافوا يقربوا منك أكتر من مسافة معينة)

 

-(لو لقيت اللي أقدر أضحك له ضحكة تجمد قلبه، هلاقيها بتطلع لوحدها، من غير نصيحتك، والشخص ده يستاهل إني أدخر عشانه نضارة الإشارات الأولى، وبكارة أحاسيسي. مش عايزة أستهلك نفسي وأنا بجرب تجارب خايبة)

 

-(طيب يا أم قويق، ربنا يوفقك)

 

-(لا أنا أم حبيبة بإذن الله) 

 ***************************

 

 أتحرك نحو غرفتي في المستشفى، بخطوات خفيفة، غير واعية، لا تكترث لجسدي المنتفخ، ولا لقدمي المتورمتين، لكن قلبي كان ثقيلا، ينبض وكأن فوقه حجر، وكأنه سيتوقف بين لحظة وأخرى، والدموع تنهمر من عيني دون انقطاع.

 

_(خايفة من العملية؟) 

 

تسألني أختي بتوجس، فأجيبها:

 

_(خايفة من اللي بعد العملية)

*********************************

 

قبل ذلك بسنة:

وضعت جبهتي على الأرض، ووجهت حواسي كلها بين يديه، وناجيته: 

 

أعلم أني لم أكن موحدة بك، أشركت معك تقديسي للصورة التي رسمتها عن الحياة المثالية، جمدت حقيقيتي، ومشاعري، حتى تتوافق مع نمط يرضى عنه غيري؛ ولم أكترث لما تمنيته حقا، أعلم أني لم أقرأ آياتك كما يجب، وتأخرت في إدراكي أني أبني فوق أرض لا تشرب، وتحت سماء لا تمطر.

 

أعلم أني ادعيت الصبر كثيرا، والحقيقة أني كنت خائفة، لكنك تعلم أيضا أني أحاول بصدق؛ التجرد عن ما رسمته لنفسي عبر سنوات عمري، وكل ما تخيلته عن تلك الأم الاستثنائية، ربة بيتها، التي تخلص لأدق تفاصيله، وتملأ حياة أبنائها بالقصص والمسابقات، تناديهم بصوت مرتفع قبل أن يبرد الطعام، بيت كل ما فيه دافئ، معطر، مبخر، وله نكهة.

 

 شئت -ومشيئتك حق - أن يكون بيتي ساكنا، يجاهد لاستقطاع النبض من بعض الكلمات، ليس في الساحة ضحايا أو مجرمين، إنها ببساطة حقيقة التجربة البشرية، إما أن تنجح أو تفشل، وكان فشلي الأكبر هو تأخري لسنوات في الاعتراف بأنني لم أنجح.   

 

يا رب، أشهدك أني راضية أتم الرضا، إن كان قدرك أن لا أكون أما، وإن كان هذا وفاء ديني؛ جراء مكابرتي، ولأني لم أتعلق بك وحدك، لكني أسألك بحق كرمك ورحمتك، أن ترزقني نعمة العزم على المحاولة، حتى أتأكد أنها مشيئتك، وليس قنوطي ويأسي، وأسألك أن لا تحرمني رضاك واستخدامك، كما ترتضي لعبادك الصالحين، ومن استخلفتهم في الخير وفي العمار.

 

***************************

 

_(تِفضّلي التخدير يكون كلي ولا نصفي؟ الكلي مش هتحسي بحاجة خالص، النصفي مش هتحسي بحاجة برضه، بس هتبقي شايفة اللي بيحصل)

 

_(عايزة أشوف كل حاجة طبعا يا دكتور)

 

****************************

 

قبل ذلك بإحدى عشر شهرا:

 

 بدأت الزيارات المتتالية للمشفى الذي قررنا المتابعة فيه، مواعيد للأشعة، والحقن، والتحاليل، على مدار شهر ونصف تقريبا لم تخل حياتي من الدراما اليومية، وقصص الأمهات من حولي، في كل مرة أنتظر دوري للكشف، وأنا أرى للممرضات وهن يحملن العينات التي استودعت السر، ووجوه النساء الباكيات أو الضاحكات، بعد أن يخبرهن طبيبهن بالنتيجة، يطمئنني كل طبيب أزوره، أنه برغم تأخرنا لخمس سنوات عن المحاولة الجادة، إلا أن سني لازال صغيرا ويزيد من فرص نجاح ذلك الإجراء الطبي -الاستثنائي- الذي لجأنا له أخيرا بعد تردد كبير! 

 

لكني لم أكن مطمئنة!

 

***************************

 

تذكرت أنه يجب أن أدعو لكل من أعرفهم، لأن في مثل هذه اللحظات تكون الدعوات مستجابة، فدعوت للجميع، أبي أمي، أخوتي، أقربائي، أصدقائي، وكل من تذكرتهم، كان والدها لم يصل بعد من القاهرة، لكني لم أنسه، ونال رزقه من الدعاء، وتمتمت: (يا رب... يا رب اجعل حياتها سعيدة ...يا رب أعني أن أكون أهلا لأمانتك، يا رب.............)

 

أخرجت طبيبة التخدير الحقنة من ظهري، وبدأ الخدر يسري بالتدريج في أطراف أقدامي ويرتفع.

 

*************************

 

قبل ذلك بتسعة شهور ونصف:

 

رأيت وجهها مبتسما، مشرقا، بشعرها وهو أسود كثيف، كانت تغفو وهي تضحك!

 

 لشهور طويلة قبل تلك الرؤية، لم يخل نومي من كابوس مخيف، أسمع فيه صوت بكاء عال، يبدو كما لو كان صوت رضيع. أبحث عنه في كل أنحاء الشقة، فلا أجده، وبعد أن يصمت الصوت تماما، أفتح خزانة المطبخ فأجد فيها طفلا ميتا، ملامحه مخيفة. كنت أستيقظ وقلبي يخفق بشدة، لأني أحاول الصراخ وصوتي مكتوم.

 

هذه المرة لم يكن هناك صراخ، كنت أنا وهي فقط نتبادل النظرات، ولا يوجد سوى ابتسامتها، ودموعي، أفقت من الحلم، ودموعي حقيقية، وأعرف أني رأيت ابنتي... لم تكن زيارات الأطباء، ومواعيد الحقن والأقراص قد انتهت، ولا أحد يستطيع أن يجزم بشيء، لكني أصبحت مطمئنة.

 

***************************

الألم يتصاعد بحدة، وأشعر أني من شدته على وشك أن أفقد الوعي، إلا أن نظرة الطبيب الملتاعة هي التي كادت تقتلني، كان يحاول التغلب على شيء ما يعيق إخراجها من داخلي، بعد أن قص حبل الخلاص.

 

******************************

 

قبل ذلك بتسعة شهور:

 

_(هتبلغونا بنتيجة التحليل إمتى؟)

 

 أجابت الممرضة التي تعبئ دمي -الذي سحبته لتوها- في أنبوبة العينات.

 

_(هنتصل بيكي خلال ساعات)

 

 أخبرت أمي وأبي أن النتيجة بعد يوم، حتى لا تحترق أعصابهما مثلي، كن أطول خمس ساعات مررن علي في حياتي، برغم استبشاري بالنتيجة، لكني كنت أولد وأموت في كل دقيقة!

 

 نسيت أن أنظر في الهاتف المحمول للحظات، خطفتني الخيول، في الاسطبل المفتتح حديثا، في النادي الذي كنت عضوة فيه -حينها- تذكرت مسلسل (ليدي) الكرتوني، والذي أبهرني وأنا صغيرة، كان يدور حول فتاة صغيرة تعشق الفروسية، وتجيدها، وتحلم بأن تكون سيدة جميلة، وقوية، ورقيقة، قلت في نفسي، يوما ما ستكون ابنتي سيدة جميلة، وقوية، ورقيقة.

 

قطع أفكاري ومداعبتي للخيول، اتصال المستشفى، طلبت مني ممرضة تتكلم بصوت جامد أن أنتظر الطبيب على الخط:

 

_(مبروك يا بنتي، الحمد لله، إيجابي)

 

لم أشعر بنفسي إلا والهاتف يسقط من يدي، ترنحت خطواتي، حتى وصلت إلى أقرب كرسي، سقطت عليه وأنا أنتحب، وأقول: (الحمد لله.. الحمد لله... الحمد لله) 

 

*****************************

 

اخرجي يا حبيبة، اخرجي لي سليمة، قوية، جميلة، أسمعيني صوت بكائك، وأريني ابتسامتك التي عرفتها، قبل أن أعرفك، يا رب ساعد ابنتي، يا رب لقد وهبتها لك أسوة بأم مريم، يا رب اجعلها معجزتي، التي أجدد معها إيماني، وأرى فيها رضاك، اجعلها غرسا طيبا، يصفح عن ما في حياتنا من جفاف وخوف ورياء.... يا رب...

 

يحمر وجه الطبيب، يحاول سحبها، يتعثر للحظات، يلهث وهو لازل يحاول سحبها، ينجح أخيرا،...

 

 تخرج حبيبتي، يمسك بها من قدميها، ورأسها متدلية لأسفل، تبكي.. وأبكي... تبكي.. وأبكي... تبكي...وأبكي...

 

الحمد لله.. الحمد لله... الحمد لله

 

 

نبتت المعجزة.. حبيبة 

***********************

 

إلى حبيبة:

 

اسمك كان وحيا لنا من الخالق الكريم، أتانا إشارة، قبل مولدك بساعات بعد أن استبعدناه من قائمة الأسماء، وبرغم أني كنت أنوي منذ طفولتي أن أسمي ابنتي حبيبة، إلا أن السنوات أنستني تلك الأمنية، ولولا أن صديقتي ذكرتني بحوارنا، لما تذكرتها!

 

منذ بدء تكوينك، كانت إرادته عز وجل، أن تكوني استثنائية ومتفردة في كل ما يتعلق بك يا حبيبة.

 

 أنت معجزتي التي أسترد معها نفسي كل يوم، وجل ما أتمناه أن تجدي طريقك الذي يسعدك، دون أن تتقيدي بأحلامي التي أرسمها لك.

 كذلك الفستان الذي ألبسته لك، في أول خروجة لنا معا، طفت وقتها كل ال(مولات) حتى أجد فستانا بقياس رضيعة، لم تتم شهرا! كنت سألتقي أصدقاءنا، وسيرونك لأول مرة، وأردتك في أعينهم فتاة (زي ما الكتاب بيقول). بعد ولادتك بأربعة شهور، قامت ثورة يناير، حملتك ونزلت مع أبي وأمي، واحتفلنا بالتنحي في ميدان التحرير، وهناك جددت أمنياتي لك: 

انسي يا حبيبة ما يقوله أي كتاب يكتبه آخرون، واكتبي أنت ما يقوله رضاك، وسعادتك، واطمئنانك.

وتذكري أنه مهما حالت بيننا لحظات خوفي أو تعبي أو تحديات الحياة، وعمرك، ومتطلباته الصعبة، ومهما زرعت بيننا مسافات لا ترضي حبنا وقلبينا، ومهما أحاطتنا معوقات لاتلبي طموحنا، سنظل وحدة واحدة.

 

  يا حبيبة إن كنت انعكاسي وجزءا مني، فالحقيقة أني لا أتحقق إلا بك ومعك. وبرغم أي أرض لا تشرب، وأي سماء لا تمطر...سنكون معا قادرين على أن ننبت المعجزة...

 

 

كتابة بتاريخ يونيو ٢٠٢٠

التعليقات علي الموضوع
تعليق واحد حتي الآن
المتواجدون حالياً

3574 زائر، و2 أعضاء داخل الموقع