و انتصرت سلطة المعني

يُروى أن الصحابي «عبد الله بن الزبير» وهو مُحاصر في مكة من جيش الحجاج بن يوسف الثقفي و موقن بهلاكه ، ركن إلى أمه «أسماء بنت أبي بكر» و أخبرها أنه لا يخشى الموت لكنه يخشى المُثلة ، أن يتم التمثيل بجسده وإهانته بعد موته ، عندها أخبرته :

«أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. … لا يُضير الشاة سلخها بعد ذبحها »

جمالية العبارة أنها ترسم للإنسان حدود سٌلطته ، لا سلطان لك إلا على العالم الداخلي ، على المعنى الذي قررت التمسك به ، أما الجسد و تصاريفه يتبع قوانين العالم المادي ، يُمكن أن ينهار و يترهل و يموت و يُمثل به ، لكن الجسد يتحلل و يبقى المعنى والشهادة والمشهدية التي قررها الإنسان لموته. 

فيما بعد سيقتله الحجاج و يجز رأسه و سيُمثل بجسده و يصلبه في مكة ، حتى تُنزله أمه من على صليبه ، سيطر الحجاج على جسد ضحيته كاملًا لكن إنفلت من تاريخه سُلطة المعنى و مُنحت لابن الزبير .

في 9 أكتوبر 1967 ،و بعد القبض عليه، قررت المُخابرات الأمريكية إعدام جيفارا أخيرًا ، المُناضل اليساري الأممي ، وإمعانًا في إذلاله و تأكيد موته للعالم ، سيتم تصويره على المحفة بعد تنفيذ الحكم و الرصاصات تسكن جسده و شعره الثائر مٌنسل على جبينه بغير هندام ، هذا الجسد المثير للشفقة هو من ألهم النضال ضد الظلم في منتصف القرن الماضي ، الغريب أن تلك الصورة كانت خطيئة لا تغتفر للتسويق السياسي فيما بعد ، لم يرى الناس فيها أي صورة للضعف بل بدا جيفارا في سكونه لقدره مثل المسيح ، و سماه اللاتينيون مسيح فاليجراندي ، خلدت تلك الصورة جيفارا للأبد و بدا قاتليه مثل يهوذا . دمرت الرصاصات الجسد لكن إنتصرت سُلطة المعنى .

في 6 مارس 2017 ، حوصر الباحث و المدون و الناشط الفلسطيني «باسل الأعرج» في مخبأه ، قاتل حتى نفذت ذخيرته و إحتاجت قوات الإحتلال لقذائف الإنيرجا لهدم المنزل ليستسلم لكنه أبى، إقتحموا المخبأ ليجدوه شهيدًا بين كتبه وسلاحه، فيما بعد ستحاول سٌلطة الإحتلال إحتجاز الجُثمان و بتشفي ستٌخبر والده أنه لو أراد رؤيته فليُعد عدته لإنه لن يرى جسد إبنه الثلاثيني الفتي بل خرقة بالية بفعل الرصاص و الشظايا ، سيراه والده ويُخبرهم بفرح :

«الله يرضى عليه، عمري ما شفته أحلى من اليوم.»

يُمكن أن يهزم الجسد أي شيء من مرض لتعذيب لرصاصة إغتيال ، ويُمكن لسُلطة إحتلال أن تضطهد الجسد حتى في كفنه و تابوته مثل جنازة شيرين أبو عاقلة ، لكن العنف والمُثلة و الإمعان في الوحشية هي عوارض ذُعر ، من سُلطة المعنى الثقيلة التي يُمكن أن يُحييها جسد ميت ، هذا التناقض أساس فعل الإستشهاد ، و هو موت المرء دفاعًا عن معنى ، فيزول الجسد و يزداد هذا المعنى حياة و حُضور 

فيما بعد وجدوا وصية باسل الأعرج في جيبه و لم تزد عن التالي :

وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله".

لا يوجد أبلغ من فعل الإستشهاد في إثارة رُعب و ذعر أي إحتلال ،لإنه فعل خلود عابر للزمن و الجسد