#بريد_الجمعة يكتبه: #أحمد_البرى .. عودة الحب القديم !
أنا سيدة عمرى خمسة وستون عاما، نشأت بحى شعبى لأسرة متوسطة تضم عشرة أفراد «أربعة رجال وست سيدات»، وكان أبى سمسار عقارات، ولم أكمل تعليمى الجامعى، واكتفيت بدبلوم متوسط، مثل معظم إخوتى، وكان شقيقنا الأصغر هو الوحيد الذى أتم تعليمه الجامعى، وصار مدرسا بإحدى مدن شرق الدلتا، وبدأت حكايتى مع الحياة، وأنا فى سن صغيرة، حيث لفت نظرى شاب من المنطقة التى نسكن فيها، ووجدتنى أحبه فى صمت برغم أنه لم يحدث بيننا أى كلام، ولكن قل هو الإعجاب الذى تحوّل إلى حب مع الوقت، ووجدتنى أتعود عليه، وأتمنى أن أراه كل لحظة، أو أن يمر من أمام منزلنا، وكثيرا ما كنت أنظر من الشرفة المطلة على الشارع الرئيسى لأخطف نظرة عليه، حتى صرت أحفظ مواعيد مروره، وتطوّرت علاقتنا الصامتة إلى إلقاء السلام والتحية، وذات يوم استجمع شجاعته، وقال لى إنه يحبنى ويرغب فى الارتباط بى، وسألنى عما إذا كان فى حياتى أحد، وهل أرتاح إليه، فاحمرّ وجهى من شدة الخجل، وانعقد لسانى، فأعفانى من الإجابة قائلا إن والدته سوف تزورنا فى اليوم التالى، وجاءتنا بالفعل فى الموعد الذى أبلغنى به، وفاتحت والدتى فى خطبتى لابنها، فردّت عليها بأنها ستعرض الأمر على أبى، وترقبت رد فعله، وقلبى يرتجف من الخوف أن يرفض زواجى بمن ارتاح إليه قلبى، وصدق حدسى، فبمجرد أن نطقت والدتى بطلب فتاى، رفض بشكل قاطع، ولم يبال لحبى، ومرت أسابيع عصيبة، وكرر فتاى طلبه، فرفضه للمرة الثانية دون أن يكترث بى، أو يفكر فى حالى، مثل كل فتاة من حقها أن تتزوج من تراه مناسبا لها، ولم أجد بدا من أن أمتثل لقراره المجحف، فلقد تعودنا أن كلمته نهائية لا رجعة فيها، ولا معقّب لحكمه علينا أيا كان هذا الحكم، ولا يعترف بحرية الفتاة فى اختيار شريك حياتها، بل إننى وأخواتى لم نجرؤ على الإفصاح عن مشاعرنا، وظل حبنا لمن أحببنا كامنا فى قلوبنا، وانطفأ مصباح قلبى، وكم آلمتنى دموع أمى المكتومة، وهى ترثى لحالى، ولم تكن بيدها حيلة إزاء تعنت أبى ضدنا، فمنذ صغرى وأنا أراها رهن إشارته دون أن يكون لها رأى فى أى شأن يخصها، وعاشت معه على الحلوة والمرة، وهكذا وأد حبى قبل أن يولد.
ومرت شهور وأنا أتجرع مرارة فراق الحبيب، ثمّ فاجأنى أبى بعريس لم يكن في الحسبان، رجل فى مثل عمره تقريبا، وقال لى إنه المناسب لى، فهو قادر على تحمّل المسئولية، وسيوفر لى كل ما تتمناه فتاة من إمكانات مادية، ولم يتوقف عند سنه، ولا وضعى معه كزوجة ثانية، إذ كانت له زوجة أولى تقاربه فى السن، وأنجب منها أربعة أبناء، وساقنى أبى إلى مصيرى المحتوم، ولا أدرى كيف مرت بى الأيام، وأنا أتجرع مرارة الحرمان العاطفى، والدفء الأسرى من زوج أحبه ويحبنى، وتجمعنا الألفة والمودة والرحمة والتقارب الفكرى، فمن تمنيته شريكا لحياتى تفصل بينى وبينه مسافات بعيدة.. صحيح أن زوجى وفّر لى حياة مستقرة ماديا، ولم يؤذنى ولو بمجرد كلمة، لكن العذاب النفسى كان أشد وأقسى، فما أصعب أن تجد المرأة نفسها فى كنف رجل على غير إرادتها، لكن هذا هو ما حدث لى، ورضيت بأقدارى، وعلى مدار نحو تسعة أعوام هي عمر زواجنا أنجبت منه ثلاثة أبناء «ولدين وبنتا واحدة»، ثمّ رحل عن الحياة، وتبعه أبى بعدها بشهور قليلة، وصرت مسئولة عن أبنائى الصغار، فكرست لهم كل وقتى، وأقفلت حياتى عليهم، وتطلعت إلى أن يصبحوا مثل إخوتهم من أبيهم الذين أتموا تعليمهم الجامعى، وشغلوا وظائف مرموقة، وساعدنى شقيقى فى تربيتهم، وتحقق لى ما أردته، وتخرج ابنى الأكبر طبيبا، ورأى أن يكمل دراساته العليا فى أمريكا، فلم أمنعه برغم أننى لا أقوى على بعده عنى، ومرت سنوات، وانتظرت عودته، فإذا به يبلغنى أنه استقر هناك، وتزوّج بأمريكية، ولم ألتق به منذ سفره سوى مرة واحدة فقط، وصارت وسائل التواصل الاجتماعى هى وسيلتنا الوحيدة للحديث، وتبادل الرأى والمشورة فيما يعنينا من أمور، أما ابنى الآخر، فلقد انتقل إلى محافظة أخرى، وصارت له حياته المستقلة، وكذلك ابنتى الوحيدة تزوجت بمن رأته مناسبا لها، وسافرت معه، ولم أقف فى طريقها كما فعل أبى معى، ويكفينى أنها سعيدة معه.
لقد شغلت الحياة الجميع، أولادى وإخوتى، وأشعر بمرارة الغربة بالرغم من أننى أعيش فى بلدى بعد أن تقطّعت الأواصر الأسرية بحكم ظروف الحياة ومشاغلها، وأحاول ألا أستسلم للوحدة القاتلة ببعض الأعمال الخيرية، ومساعدة الآخرين قدر استطاعتى، والحمد لله فلا ينقصنى شئ من الناحية المادية، وصحتى على ما يرام، لكن ما أكتب إليك بشأنه هو أننى التقيت مصادفة منذ أيام مع فتاى القديم فى طريق عودتى إلى المنزل من زيارة إلى ابنتى فى المدينة التى تقطن بها، إذ استقللنا الأتوبيس نفسه، ووجدته الراكب الجالس إلى جوارى.. يا الله.. إنه هو بطريقة كلامه، وأسلوبه الهادئ، ونفسه الصافية.. لا شىء تغيّر فيه سوى شعره الأبيض وتجاعيد السن، وقد روى لى كيف سارت حياته بعد رفض أبى له، وبادلته الحديث عن حياتى أنا الأخرى، فإذا بظروفنا واحدة، حيث انتهى به المطاف وحيدا فى بيته، كما أنا وحيدة فى بيتى، وقبل أن نفترق أعطانى رقم هاتفه طالبا منى أن أفكر فى الزواج به لنكمل معا ما بقى لنا من عمر، فلقد أدى كلانا رسالته فى الحياة، ولم يقصّر فى حق أهله، وقد حان الوقت لنستريح، وننفض عن نفسينا غبار الزمن، ومتاعب الحياة، ووجدتنى أبادله الشعور نفسه كما بادلته الحب من قبل.. إنه ينتظر ردى، ولا أدرى بما أجيبه، إذ لم أفاتح أبنائى فى طلبه، وهم لا يعرفون شيئا عن حكايتى معه، وأشعر بقدر كبير من الحرج إذا حدّثتهم فى هذا الأمر، وقد فكّرت فى الحديث مع شقيقى، لكنى أتحسّب رد فعله، وكيف سينظر إلى رغبتى فى الزواج، وأنا فى هذه السن المتقدمة.. لقد عشت حياتى كزوجة، لكنى لم أعشها كحبيبة من حقها ـ وقد واتتها الفرصة ـ أن تغتنمها، والمسألة ليست لها علاقة بالحاجة الجسدية، فهى ماتت من زمان، وليست لى رغبة فيها على الإطلاق، وإنما هى علاقة روحية، ولا شىء سواها.
إننى أعيش الآن مع الذكريات، وأسترجع مراحل عمرى، إلى أن صرت جدة، وأقول فى نفسى إننى راضية بما قسمه الله لى، فالإنسان لا يأخذ من الدنيا كل ما يتمناه، ومن الطبيعى أن تكون هناك أوجه نقص فيها، فهل أكون طامعة فيما لا حق لى فيه ـ على الأقل من وجهة نظرى ـ إذا فاتحتهم فى الزواج من فتاى القديم من باب الإيناس، وهل تتغيّر نظرتهم لى؟، وبماذا أبرر لجيرانى ومعارفى هذا الزواج فى سنى المتقدمة، وأنا لم أتزوّج بعد رحيل زوجى منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما؟، أم أكتفى بالذكريات وأطلال الحب القديم، ولحظات السعادة فى الماضى البعيد، وأغلق بابى على نفسى إلى الأبد تحاشيا لكلام الناس ونظرات الآخرين؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أتفهم تماما أن حنينك إلى الحب القديم لا علاقة له بالاحتياج الجسدى الذى تخشين أن يفسره أهلك عندما تطلبين موافقتهم على زواجك وأنت فى هذه السن المتقدمة، ولكن فى كل الأحوال لا أجد غضاضة فيه، فلا شأن لأحد بمشاعرك، ولا عيب فى أن تبوحى بمكنون نفسك، ورغبتك فى أن يشاركك ما تبقى لك من عمر زوج مناسب، وما أجمل وأروع أن يكون شريكك فى الحياة هو فتاك القديم الذى تعلّق قلبك به، وما أحلى اللقاء بعد الفراق، فهو يبث الأُنس ويطرد الأحزان، ويريح النفوس المتعبة، ولحظاته مشرقة، ونسائمه عليلة، وهواؤه منعش، وهو لقاء يضاهي الربيع في روعته ورونقه، وأجدك وكأنك ترددين مع الشاعر قوله:
غِيابُكِ في الفؤادِ لهُ احتِشاء
وطَيفكِ في الخيَالِ لهُ انتِماءُ
حقا فإن زواجك منه سوف يحقق لك الشعور بالأمان، والإيناس والتغلب على الوحدة، والحفاظ على صحتك النفسية، فلا تلقى بالا للعادات الاجتماعية البعيدة عن شرع الله، ولا تجعليها حاجزا أمام أمر أحله سبحانه وتعالى كما قال فى كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (المائدة87), حيث نزلت هذه الآية في أناس حرّموا ما أحلّ الله لهم حتى قال بعضهم: لا أتزوج النساء, فنهاهم رسول الله بقوله: «أنْتم الَّذِينَ قلتم كَذَا وكَذا أَما وَاللَّه إِنِّى لأَخْشَاكم لِلَّهِ وَأَتقاكُمْ لَه لَكِنِّي أَصوم وَأُفْطر وَأصَلّى وَأَرْقُد وَأَتَزَوَّج النِّسَاء فَمَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ منِّي».
وإذا كان زواج الأب بعد موت الأم يواجه بعض العوائق والمشكلات من جانب الأولاد بشكل خاص، فإنه لا يقارن بعراقيل زواج الأم بعد موت الأب, إذ تواجه صعوبات أكبر بكثير وعوائق أشد وأصعب, ليس من الأبناء فحسب، بل من المجتمع أيضا، والحقيقة أنك لم تخرجى عن هذه الدائرة، إذ تفرغت لتربية أبنائك حتى نالوا شهاداتهم، وعملوا وتزوّجوا وكوّنوا أسرا مستقلة، وصارت لكل منهم حياته الخاصة، بمعنى أنك تأثرت بالعوامل الاجتماعية التى تنكر على الأرملة زواجها بعد رحيل زوجها، وإذا كانت لصنيعك دوافعه بتربية الأبناء، فما المانع من أن تكملى حياتك مع رجل يؤنس وحدتك بعد انشغال الجميع عنك فى الوقت الذى تزداد حاجتك فيه إلى من يكون إلى جوارك؟.
لقد أباح الإسلام زواج المرأة بعد وفاة زوجها دون النظر إلى سن أى منهما, ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل وبرهان, فلقد تزوجت أم سلمة منه بعد استشهاد زوجها، وفى ذلك قالت: سمعت رسول الله يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لى خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها، وقالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبى سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لى رسول الله، وقالت : أرسل إلىّ الرسول حاطب بن أبى بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لى بنتا وأنا غيور، فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة»، وهكذا نجد أن زواج المرأة ليست له سن، ولا أى موانع، فلا تترددى فى الارتباط بفتاك القديم، وأحسب أن أبناءكما سيباركون هذا الزواج، خصوصا بعد أن كبروا وتزوجوا، وفهموا معنى الحياة.
إن المشكلة الكبرى التي تقف عائقا ومانعا في زواج الأم بعد وفاة زوجها تتمثل فى أمرين أساسيين، هما البيئة الاجتماعية من أعراف وعادات وتقاليد ترى أن زواج الأم بعد موت زوجها غير مقبول، وأن فيه شيئا من الإحراج، وكذلك الأبناء خصوصا لو أن أمهم بلغت سنا كبيرة، ولكن لا يحق لهم أن يحرموها مما أحلّ الله لها مهما يكن سنها أو وضعها الاجتماعى، ومن المهم أن يتسم من يرغب فى الارتباط بها بالعقلانية، فالرجل العاقل يمكن أن يكون محل قبول من الأبناء, بعكس الأناني المعروف عنه الصفات السيئة في بيئته ومجتمعه فلا يكون محل قبول من أحد، فليكن الوضوح والشفافية والنظر فى كل الأبعاد النفسية واحتياجات المرأة عند قبول هذا الزواج أو رفضه، وأن يتم ذلك على أسس تراعى طبيعتها ومتطلباتها، فما أكثر القصص التي تموت في البيوت, لكثيرات من الأمهات اللواتي كن يرغبن فى الزواج، ولكنهن امتنعن عن إتمامه خوفا من لوم المجتمع والأبناء وتأنيبهم المستمر لهن, فمن هنا تكبر أحزانهن وتظل كامنة في قلوبهن دون أن يشعر بها أحد، ولا يحس بها ولد, وهذا ذنب لو تعلمون عظيم.
والحقيقة التى يجب أن نتوقف عندها هى أن ميل عدد كبير من الأبناء إلى رفض زواج أُمّهاتهم، إنما يرجع إلى عوامل نفسية، فمهما تكن أعمار أولاد أى أم، فإنهم يكونون قد تعودوا الاستحواذ على اهتمامها، ومن ثمّ يصاحب تجربتها النفسية الجديدة الخوف، والنفور اللاإرادي بينهم وبين زوجها المنتظر، ولكن فى حالتك فإن كل الظروف مهيأة لإتمام زواجك من فتاك الذى باعدت الأيام بينك وبينه، فابنك الأكبر فى أمريكا، وتؤهله ثقافة المجتمع الذى يعيش فيه لأن يتفهم دوافعك إلى الزواج، وكذلك ابنك وابنتك الآخران لن يرضيا أبدا بأن تعيشى وحيدة فى الوقت الذى ينعمون فيه جميعا بالدفء الأسرى، وقد أصبح بإمكانك صنع حياة أفضل لنفسك، فقط عليك أن تدركى أن كل لحظة في الحياة هي نعمة غالية، ومن الظلم لنفسك إهدارها؛ ولذلك فمن الأذكى أن تصنعي حاضرًا أفضل، وأن تستشرفى المستقبل، فالأعمار بيد الله، وليس معنى أنك بلغت الخامسة والستين من عمرك، أن تحكمى على نفسك بالإعدام، أو انتظار الموت، فلا يعلم أحد متى يرحل عن الحياة، وعليه دائما أن يأخذ بالأسباب، فابتسمي لها، وأضيفي لنفسك كل يوم شيئا يفيدك دينيًّا ودنيويًّا، وتذكري أن أفضل العون هو عون النفس، وتذكري الحديث الشريف «واستعن بالله ولا تعجز»، وباستطاعتك صناعة ما هو أكثر وأفضل متى أغلقت أبواب الحزن، وفتحت أبواب الرضا، وتمسكت بالأمل، وفى النهاية سوف تربحين ما هو أكثر وأجمل، وأرجو أن يتفهم أبناؤك وأشقاؤك ذلك، وأسأل الله لك التوفيق والسداد.