أتابع بابك الشهير بانتظام، وأسجل بعض العبارات من ردودك على أبطال قصصه وحكاياته، وأسترجعها من حين إلى آخر. لكى أستفيد منها فى مواجهة متاعب الحياة. وقد جاءت اللحظة التى ترقبتها طويلا لكى أكتب إليك تجربتى مع الكفاح والصراع مع أقرب الناس لي، والذين يبطنون عكس ما يظهرون، وتقول ألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، فأنا سيدة نشأت فى أسرة بمنطقة عشوائية، ينتشر فيها الجهل، وانعدام الطموح، فلا همَّ لمن يعيشون فيها سوى تناول الطعام والشراب، ولا يفكر أحد فى التعليم، ومن نال منهم قدرا منه لا يكمل دراسته. وينخرط فى الحياة مع من حوله بنفس الأسلوب، ووجدتنى أثور على هذا الوضع القاتل للطموح، وسلكت الطريق الصعب سعيا لاستكمال تعليمى وتحقيق حلمى الذى طالما حلمت به، فلقد مات أبى وأنا فى الرابعة من عمري، ولا أكاد أتذكره، وتركنا أنا وشقيقاتى الثلاث، وكان عمر الكبرى وقتها أحد عشر عاما، وترتيبى بينهن قبل الأخيرة، وكان أبى يعمل فلاحا فى قطعة أرض زراعية ملك له، وقبل أن يكمل عامه الأربعين، التحق بمضرب حكومى للأرز. وعمل به لمدة أسبوعين فقط. ثم مات فجأة، وتركنا بلا عائل ولا معين سوى معاش قدره أربعة عشر جنيها أصبح على أمى أن تدبر حياتنا به، إلى جانب عائد بسيط من قطعة الأرض، وتلفتت أمى حولها فلم تجد من يساندها، فأعمامى وأولادهم منهم من مات وكثيرون شغلتهم الحياة، فلا نراهم، ولا تربطنا أى صلة بهم، أما أخوالى فمنهم إخوة لأمى من الأب، وكانوا بعيدين عنا، وشقيق واحد لها يعمل «حلاقا» هو الذى فرض نفسه علينا، وهو شخص شديد الأنانية، ويظهر للناس، على أنه متدين، وينتمى إلى الجماعة التى تقوم على مبدأ «السمع والطاعة» فأراد أن يطبق فلسفتها علينا، فاستولى على قطعة الأرض التى ورثناها عن أبينا، ولم يرحمنا كبنات يتيمات فى حاجة إلى الرعاية والحنان، وكنا نتطلع إلى أن يعاملنا مثل بناته، لكن والله لم نجد فيه أى ذرة رحمة، ولا مودة تقربنا منه. فإحساسه بنا وبغير أولاده ميت، ولما شكت له أمي، وهى تذرف الدموع بغزارة وتوسلت إليه أن يقف بجانبها قال لها بكل برود «أنا عندى أولاد عايز أربيهم»، وقد دفعنى هذا الجفاء فى سنى الصغيرة وقتها إلى أن أبذل أقصى ما فى وسعى لكى أتعلم ويكون لى شأن فى الحياة، وأخذت عهدا على نفسى بأن أسلك الطريق الصحيح، ولا أمشى فى طريق آخر يغضب الله، أو يجعلنى أحيد عن جادة الصواب وأقبلت على الدراسة بشغف، وأشاد أساتذتى بمستواي، وقالوا إننى أفهم بسرعة، وأوصوا أمى بالاهتمام بي، خصوصا وأن شقيقتّى اللتين تكبرانى لم تدخلا المدرسة من الأساس. فأخذت بنصيحتهم، وشجعتنى على المذاكرة، وتبعتنى أختى الصغرى التى اكتفت بدبلوم متوسط وآثرت الاقتصار عليه بعد أن لمست الصعوبات العديدة التى مررت بها، وبالذات فيما يتعلق بالحالة المادية، ولم أفكر فى أى دروس خصوصية واعتمدت على نفسى فى التحصيل، وكنت أسأل أساتذتى فى النقاط التى يستعصى عليْ فهمها، وقد فعلت ذلك فى المراحل الدراسية الثلاث الابتدائية والإعدادية والثانوية»، ولم أكلف أسرتى مليما واحدا فحتى المصروفات لم أدفعها وتحملتها الدولة شأن كل الفقراء واليتامي، وفى تنسيق الثانوية العامة جاءنى المعهد العالى للسياحة والفنادق، وسعدت به كثيرا، لكن فرحتى انطفأت عندما سحب خالى أوراقى منه لأنه يحتاج إلى مصروفات، ونسى أنه استولى على أموالنا وأرضنا، ولم يعط أمى ميراثها من أبيها، ولم تفلح توسلاتى إليه فى اثنائه عن موقفه وأنا لا حول لى ولا قوة، وحمدت الله على ما أنا فيه، وقلت فى نفسى «ربما يكون هذا خيرا لي»، إذ اننى وبرغم عدم علمى بما ستصير إليه المقادير فى شأن التحاقى بأى كلية أو معهد، فقد دخلت اختبارات التربية الرياضية، والتربية الفنية، تحسبا ألا أدخل كلية جامعية بمجموعي، وبالفعل التحقت بكلية جديدة فى مدينة السادات تابعة لجامعة المنوفية، لكن ذلك لم يرح خالى الذى استكثر عليّ التعليم الجامعى وأنا فى هذه الظروف، فى الوقت الذى لم يفلح فيه أولاده برغم أنه يملك الأموال التى تساعده على توفير كل متطلباتهم، بينما أنا يدى مغلولة عن كل شيء.
وكنت ذات يوم فى الكلية وفكرت فى أمرى وأصابتنى حالة إعياء شديدة، وظللت أبكى بحرقة وألم على ما أنا فيه، وسألت نفسى كيف سأواجه هذا القلب الحجري، وأمى لا حول لها ولا قوة، ولا تستطيع أن تنطق بكلمة واحدة أمامه، وعلم بحالى فوجدها فرصة لكى يثبت أننى فتاة غير طبيعية فأخذنى إلى طبيب مخ وأعصاب، وراح يتلاعب بي، وأنا أقول للجميع إنه يخدعهم لغرض فى نفسه، وكان هذا تحديا أصررت على مواجهته، فهو واحد من الجماعة التى لا تعرف غير «السمع والطاعة»، ولا يلقون بالا بمن حولهم، المهم هو مصلحتهم، ومضيت أواجه ممارساته معى بشجاعة، وتصديت لمحاولات ابتزازه نصف فدان أرض زراعية تركه لنا أبي، إذ ادعى أنه يحافظ على حقنا، وأنه كتب عقودا باسمنا، كل هذا فعله، ولا ندرى حقيقة أمره، واكتشفت أنه كان يدبر أمرا ما بعدم تسجيل العقود بأسمائنا، لكى يأخذ الأرض فى النهاية لنفسه، ويعطى كل بنت «قرشين» ولن تجد أمامها سوى أن ترضى بما أملاه عليها بعد أن ترحل أمى عن الحياة، ولم يكتف بذلك بل استولى أيضا على إرث إخوته، ولكن كما يقول الحق تبارك وتعالى فى كتابه العزيز «ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين»، فلقد توفى فجأة قبل أن يرتب ما كان يسعى إليه، وتكشفت الحقيقة الغائبة عن الجميع، وهى أنه كان إنسانا عديم الإحساس بالآخرين، ولا يهمه شيء سوى نفسه، وعادت إلينا أرضنا وإرثنا، وتعجب الجيران مما عرفوه عنه، وأخذوا يضربون كفا بكف، وأثنوا على شخصيتى وكفاحى برغم اليتم، والضغوط التى مارسها ضدي، وغياب أعمامى وأولادهم، وقد أفادنى ما تعرضت له طوال حياتى فى التصدى للظلم والفساد، فأقول دائما إن الله يمهل ولا يهمل، فازددت قوة ويقينا وإيمانا بالله، وكثيرا ما أسأل نفسي: لماذا تكون نفوس أمثال خالى دائما أمارة بالسوء، وما عقابه عند الحق تبارك وتعالى فلقد مات وهو آكل مالنا ومال أمنا؟ وكيف السبيل إلى توعية الناس بعدم أكل حقوق اليتامي؟ وماذا تقول لمن تسول له نفسه أن يأخذ حقا ليس له؟
لقد تخرجت وعملت مدرسة، وأربى أجيالا على الخير والعمل الصالح، وتزوجت رجلا فاضلا، وجدت فيه ما افتقدته فى كثيرين ممن حولي، وأنجبنا أولادا أسأل الله أن يبارك فيهم، ودائما أضع أمامى صورة خالي، وأدعوه سبحانه وتعالى ألا يكون أحد منهم على شاكلته، وأن يجنبنا ما كان يفعله، ولعل فيما حدث له عبرة لكل الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
ما حدث لك بأكل خالك أموالكن لا يتعلق بالإحساس الميت، ولا بالبرود والغلظة فى المعاملة فقط، وإنما يندرج أيضا تحت المحرمات التى يعاقب الله عز وجل من يرتكبها أشد العقاب، فلقد نهى عن أكل مال اليتيم ظلما، فقال «ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن»، وقال أيضا، «ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوبا كبيرا»، وذكر آية أخرى فى وعيد من يأكل أموال اليتامى وعقابه فقال «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنما يأكلون فى بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا»، وفى الصحيحين عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اجتنبوا السبع الموبقات، وهى الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وإنى أستغرب أن يصنع رجل يدّعى التدين ما صنعه خالك معكن وأنتن أربع بنات وأمكن، سواء بأكله أموالكن، أو أسلوب تعامله معك، وحقده عليك من أنك تصرين على التعليم، فى الوقت الذى لم يتعلم فيه أبناؤه، وقد فاته كما يفوت أمثاله من الذين يتظاهرون بالتدين، ويخفون عكس ما يظهرون، أن رسول الله ضرب أروع الأمثلة فى التعامل مع اليتيم، فلقد مسح على رأس أحد الأيتام، وقال من مسح على رأس يتيم، لم يمسحه إلا لله، كان له فى كل شعرة مرت عليها يده حسنة، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو فى الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطي»، وعندما شكا إليه رجل من قسوة قلبه، قال له الرسول «امسح رأس اليتيم، واطعم المسكين»، وعندما يعطى المرء اليتيم الثقة ويزرع الحب فى نفسه، فإنه يدفعه الى الانطلاق والتجديد، ويمنحه الفرصة لإثبات وجوده، لا أن يفقده الثقة فى نفسه، ويدّعى أنه مختل عقليا كما فعل خالك معك مع أنه لم يقدم لك شيئا من ماله، فميراثكن لديه سواء الخاص بك أنت وأخواتك أو أمك يكفى لأن تعيشى حياة مستقرة، وتتلقى التعليم المناسب، ولو كان رجلا يعرف ربه لرباكن التربية الجادة والهادفة التى تعطى اليتيم الجرعة الإيمانية الصالحة، ولأدخل البهجة والسرور عليكن، ولتعامل معكن بلين الكلام وحسنه من منطلق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكلمة الطيبة صدقة» فكم من كلمة طيبة أدخلت السرور على إنسان، وكم من كلمة ساقطة عملت بصاحبها فعل السهام.
ولقد تجاهل خالك أيضا، أن لين الجانب من الآداب المهمة التى يجب التحلى بها فى التعامل مع الأيتام، بل والناس عموما، حيث يقول تعالى «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، بمعنى ضرورة التعامل بوجوه بشوشة تقرب المسافات، وتؤلف القلوب، كما حذرنا القرآن الكريم من قهر اليتيم فى قوله تعالى «فأما اليتيم فلا تقهر»، وجعل التعامل الغليظ معه قرين التكذيب باليوم الآخر، فقال «أرأيت الذى يكذب بالدين، فذلك الذى يدع اليتيم»، إنه توجيه إلهى لمن يرعى اليتيم بأن يكون اليد الرقيقة التى تحنو عليه وتمسح على رأسه لتزيل عنه غبار اليتم، وتضفى عليه حالة من العطف والحنان، ثم تحذير من قهره والقسوة عليه، ثم يشنع القرآن على من يفعل ذلك، ويجعل قهر اليتيم علامة على الخلل فى الإيمان.
وقد يتصور البعض أن تدليل اليتيم هو المطلوب منه مادام قائما على تربيته، لكن من يتخيل ذلك يجانبه الصواب، فمن حق اليتيم أن يتلقى «تربية متوازنة» والواجب معاملته كالابن تماما فى التربية والتقويم، ولو عدنا الى السنة النبوية، وما فعله الصحابة سنجد نماذج تبرهن على تكامل رؤيتهم فى تربية اليتيم، وقد سئل ابن سيرين عن ضرب اليتيم فقال «إصنع به ما تصنع بولدك، اضربه ما تضرب ولدك» رواه البخاري.
وليعلم كل من أسعده الله بكفالة يتيم وتربيته، أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة ربانية، فلا يعلم أحد متى يحين أجله، ولا من الذى سيربى أبناءه، فمن اتقى الله وأحسن الى يتيم تحت ولايته، ثم وافاه الأجل، فإن الله تعالى يخلف ابناءه الأيتام من يقوم على أمرهم، ويتقى الله فيهم، وان عاش وطال عمره لحقته و ذريته بركة عمله، فليكن ما فعله خالك معكن ثم رحيله عن الحياة تاركا كل ما جمعه من مال حرام عبرة وعظة للآخرين، وليت أولاده يعيدون الحقوق الى أصحابها، فيعطونكن الأرض الزراعية التى كانت بحوزته، ويغسلون أيديهم وأفئدتهم مما فعل، ويمدون جسور الرحمة والمودة معكن، ولتكونى أنت واخواتك عند حسن الظن يكن فتتجاوزن عما فعل معكن، وأن تصفحن عنه، عسى الله أن يغفر له، مصداقا لقوله تعالى «خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين»، وفى ذلك يقول الشاعر:
خذ العفـــــو وأمر بعـــرف كمـــا
أمرت وأعرض عن الجــــاهــلين
ولن فى الكــــلام لكـــــــــل الأنــــام
فمستحسن من ذوى الجاه لين
ولتكن قصتك عبرة لكل من يأكل أموال اليتامى بأى صورة من الصور، فالله هو المطلع عليه، وسوف يلقى جزاءه العادل فى الدنيا قبل الآخرة، وإذا زين له الشيطان سوء عمله، فوقتها سوف يعض على يديه، ويقول : «يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا»، ولكن هيهات فالندم حينئذ سيكون قد فات أوانه ولن ينفع صاحبه، أسأل الله لك ولأخواتك راحة البال، ولعل أبناء أعمامكن يتواصلون معكن، ويلتئم شمل العائلة، فالواضح أنهم انصرفوا عنكن لما رأوا تدخلا واضحا من خالكن فى حياتكن، فما مضى فات وانتهي، ويجب النظر إلى الساعة الآنية واستشراف مستقبل أكثر إشراقا, كله أمل وتفاؤل وسعادة، والله المستعان.