"ما خرج أحد وعاد من جديد..
إلا سعيدة تزوجت سعيد ..
وعاش كريماً حياة كريمة "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عقار محروس ..
عقار عادي في منطقة شعبية يمكن أن يكون هو العقار الذي تسكنه أو يقطن به صديقك ..
قد تمر عليه يوماً ولا يلفت انتباهك .. وربما أوقفت سيارتك بقربه في يوم لم تجد فيه مكاناً قريباً من بيتك ..
نظرة من أعلى ندق فيها أبواب الوحدات بالعقار لنتعرف على من فيه
عقار من خمسة أدوار علوية كل دور مقسوم لشقتين صغيرتين جداً في المساحة ..،
الطابق الأرضي مغلق على مدخل للبدروم ومفتاحه فقط مع مالك العقار ..، لم يهتم أحد بمعرفة ما فيه برغم الرائحة الشيطانية التي تنبعث منه أحياناً وتختفي من تلقاء نفسها ..،
الطابق الأول : الشقة التي تقع على يمين السلم هي لأسرة سافرت منذ سنوات عدة وأغلقتها تاركة المفتاح لبعض الأقارب يعودونها من آن لأخر لدفع الإيجار وما الى ذلك من التزامات ساكنيها
الشقة يسار السلم لمعلمة إعدادي لا تقيم فيها ولكنها تستعملها كمكان للدروس الخصوصية .. دائماً تجد طلبة وطالبات بالزي المدرسي يقفون بانتظارها أمام الباب
الطابق الثاني هو لصاحب العقار (والد محروس ) شقة واحدة بمساحة معقولة نوعاً ما
الطابق الثالث الشقة اليمنى لسيدة طيبة تعيش فيها وحيدة بعدما توفى زوجها وتزوجت ابنتها بينما اعتقل ابنها في قضية سياسية .. يشاركها نفس الطابق في الشقة الأخرى شاب نوبي صموت قليل الكلام عدواني نوعاً ما إذا تكلم يتحاشاه الجميع .. يقال انه ورث الشقة عن والده .. يقال أنه يعمل في إحدى شركات التعدين .. لكن لا شيء عدا ذلك معروفاً عنه
الطابق الرابع .. للسيدة أم أحمد تلك المرأة لتي تجد نموذجها بكثرة في الأحياء الشعبية .. نموذج زاخر هو بالنميمة والغيبة وسلاطة اللسان والفضول المزعج في المقابل الشقة المغلقة ليست سوى شقة بلا صاحب
الطابق الأخير من شقة واحدة هي شقة أسرة إسراء التي غابت عن الوعي مؤخراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمامة بيضاء تحلق في غرفة باهرة الضوء ترقد فيها إسراء بلا حراك .. تهوي الحمامة لأسفل باحثة عن شيء ما سرعان ما تقبض عليه ثم تحلق من جديد نحو الفتاة الراقدة لتلقيه بين يديها ..
إنها حلية بلاستيكية من تلك التي تعلق في عقود وأساور الفتيات .. حلية على شكل حمامة زرقاء مقيدة الساقين بخيط قوي ربط حولهما بإحكام ودقة !
أين رأت هذه الحلية من قبل ؟؟
لا يبدو مظهرها باعثاً للإرتياح .. شيء ما يخبرها بأنها يجب أن تحرق هذا الشيء فوراً وهي تتلو آيات القرآن الكريم المحصنة ..
تهم بالنهوض لكنها تفاجأ بأن ساقيها مقيدتان تماماً بحبل قوي ربط حولهما بإحكام!!
ترغب في الصراخ لكن الصوت مختنق .. كل شيء مقيد .. كل شيء مخنوق .. كل شيء ترغبه لا تجد له سبيلاً .. أو توشك على تحقيقه لكنها لا تبلغه أبداً !
فجأه تتبدد الصورة لتتحول إلى ما يشبه بحر متلاطم الأمواج تكافح كي تبقى رأسها مرفوعة لتحصل على بعض الهواء .. لكن عبثاً عبثاً سرعان ما تغرق للقاع ..
في القاع جثة ملقاة على وجهها تقترب منها في جزع .. جثة فتاة تناثر شعرها مع حركة المياة فبدا كما لو أنه الشيء الوحيد الحي فيها
تجذبها من شعرها لتقلبها على وجهها ..
إنها هي ..! انها هي اسراء ذاتها .. ليست ميته بل تضحك بقسوة ووحشية وتقترب منها فاغرة فاها كاشفة عن لسان مشقوق ..
ترغب في الهروب .. ترغب في الصراخ .. ترغـــ ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
( كح كح كح )
- الحمد لله .. فاقت أخيراً ..
- ايه اللي جرالك يبنتي .. وقعتي قلبنا
تحدق بذهول في الوجوه من حولها .. هل هو حلم مفزع آخر ؟؟
أمها تبكي وتقترب منها لتحتويها بينما هي تتمتم بكلمات غير مفهومة .. بالكاد تعي ببطء الأشياء حولها ..
انها في غرفتها عارية تماماً وقد التفت حولها الأغطية بينما جلس والدها عند قدميها ووالدتها بجوارها تحتضنها وتتلو ما تحفظه من الأيات والأذكار
كان هذا قريباً كان حقيقياً أكثر من اللازم .. إنها تشعر أنها مراقبة بشكل ما .. أفكارها وتصرفاتها سكناتها وخلجاتها ورمشة عيناها .. هناك إحساس بعدم الإرتياح وانقباض يعتصر قلبها بلا رحمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
تفتح الشقة المهجورة لتخرج السيدة أم أحمد لو أن هناك ضوء ما لاستطعت أن ترى الارهاق بادياً على ملامحها ..،
تنظر لأعلى نظرة عابرة وتبتسم ابتسامة باهتة ..،،
ثم تدخل شقتها وتغلق الباب بهدوء ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
لن تنام .. إن النوم لحظة ضعف تسلم فيها جسدها وكيانها إلى المجهول .. ستظل مستيقظة حذرة
أمها تنام بجوارها وقد أبقت الأضواء في الغرفة .. لن تنام بعد اليوم في الظلام مجدداً أبداً ..، فلننسى الدراسة اليوم لكن على الأقل يجب تحضير كتب وأدوات الغد ..
نهضت من الفراش وبدأت في إعداد حقيبة المدرسة .. عندما سمعت الهسيس من جديد ..!
تصلبت وهي تحاول الإنصات .. نعم لا شك في هذا هناك من يهمس بجوار أذنيها بحروف لا تتبين منها كلمة واضحة ولكنها تسمع بعض حروف متفرقة
امتدت يداها تلقائياً بجوار أذنيها .. هل هما تحس به شوارب قط بالفعل ؟ لا ليس شعرها ولا يوجد شيء بجوارها له هذا الملمس
كانت القشعريرة الباردة بدأت تزحف على ظهرها كأفلام الكارتون عندما اصطدمت يدها بشيء ما وسط كتبها الدراسية المتناثرة ..
ورقة قديمة للغاية ومهترئة .. غريب هذا لم تكن هنا من قبل ... ورقة مقسمة أربعة أرباع تقطعت أوصالهم وانفصلوا بالكاد يرتبطوا مع بعضهم ببقايا أشد إهتراء .. الجدير بالذكر أن كل ربع مفصول محروق في منتصفه تماماً
فتحتها وراحت تقرأ ,,
بخط فخيم رصين لا شك أنه كتب باليد في زمن سحيق :
( العهود السليمانية السبع )
ثم الحديث عن سيدنا سليمان عليه السلام الذي أخذ عهوداً من الجان بعدم التعرض لحامل هذه الورقة التي ازدانت أطرافها بآيات القرآن الكريم .. واحتلت جزء منها طلاسم وحروف وأشكال سحرية غريبة ..،،
ما هذا ؟ من الذي وضع هذه الورقة وسط كتبها ؟ إن غرفتها هي قدس الأقداس لا يدخلها غريب أبداً ..، هل يعني ذلك أن اليد التي وضعتها ليست غريبة ؟؟
بهلع أيقظت أمها لتدس الورقة تحت أنفها ..
- شفتي الورقة دي قبل كدا يا ماما ؟؟
الأم وقد أطار صوت ابنتها النوم من عيناها تنظر للورقة بتشتت وانعدام تركيز : ايه دي ؟ وريهالي ..
ثم وقد بدا عليها امارات الفهم والرضا عن الدنيا : ده حجاب !
- يعني انتي اللي حطتيه ليا ؟
- لا طبعا انا اول مرة اشوفه ! بس هو حجاب ميخوفش !
- مين اللي حطه وليه الورقة قذرة كدا ومحروقة ومتآكله ؟
- علمي علمك يا بنتي ! بسم الله الرحمن الرحيم
الهسيس من جديد يعود بإصرار هذه المرة .. غريب أنها تشعر بانتماء لهذه الورقه التي لم ترها إلا من دقائق معدوده .. شيء ما يخبرها أن عليها أن تهتم بها .. تعيد ترميمها وتحتفظ بها
وهكذا تقضي الدقائق التاليه في لصق الورقة من الخلف وترميم أركانها .. ثم تطويها لتدسها في محفظتها ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صباح جميل .. إنها تشعر بتحسن بالغ .. بل لنقل بنوع من القوة الكاسحة تستشعرها في كيانها بلا سبب واضح
لم تعد تخاف .. لم يعد القلق يقلقها ..
( إسراااااااااااااااء )
صوت شيرين ينادي ... يجب أن تذهب الآن
نزلت درجات السلم بهدوء وثقة .. في الطابق الأرضي كانت شيرين تنتظر كالعادة شعرها الخشن معقوص بقوة تلتهم شطيرة يبدو أنها من الجبن ..
إن شيرين تبدو على ما لا يرام .. مدت يدها تصافحها كالعادة
ما ان لمست يدها حتى ومضت أمام عينيها ومضة سريعة لم تستغرق أكثر من جزء من الثانية .. لكنها رأت فيها شيرين معلقة من ذراع واحد في شجرة تتدلى منها باكية وقد ارتدت ثوب أسود طويل
- كيف حال أبيك يا شيرين ؟
بدت الدهشة على الفتاة كما لو أن السؤال غير متوقع .. ثم أجابت بعد برهة : عرفتي ازاي انه مريض ؟
- خمنت .. هو اخباره ايه ؟
- للأسف امبارح مقدرناش ننام عمي وماما خدوه عالمستشفى وانا هروح لهم بعد المدرسة ..
نظرت اليها اسراء بعمق ثم احتضنتها بحنان .. لن تقول لها ما رأته وفهمته للتو ..
في المساء .. توفي والد شيرين ،،
يتبع