كان يوما مغايرا,بدأ عاديا ككل أيامنا المغموسة في التكرار وانتهى يوما استثنائيا بكل المقاييس .. أحلام تتحقق وترى النور ..وجوه تعبر في النفس بطريقة عكسية " يعني من القلب إلى العين " فنكتشف أن ما رأيناه بعيون الخيال هو أجمل على الحقيقة .. أصوات تصافح سمعي للمرة الأولى فتنفذ من أذني إلى القلب مباشرة
إلا أن المكان تسيد الموقف ..بعد لقاء عاصف مميزانتظرته طويلا توقفت سيارة الأجرة في ميدان التحرير .. ميدان التحرير " سيد الأمكنة " للهواء عبير مختلف اليوم أتنسم هواءً حرا.. نعم حرا , إن القاهرة المكتظة ملوثة الهواء قد كشفت اليوم عن وجه مختلف مكانا وزمانا وشخوصا وشئونا
.. المكان: ميدان التحريرـ اسم على مسمى
.. الزمان : زمان الحرية
.. الشخوص : المصريون بأطيافهم وأشكالهم وفئاتهم وأعمارهم
.. الشئون : شئون زاخرة بالشجون اختفت الرءوس المنكسة والنظرات المقهورة .. مالي أرى في العيون بريقا من البهجة والكبرياء ونفوسا تشع انسجاما وصفاءً .. النظرات التي أراها نظرات غريب عاد إلى الوطن أو عاد إليه الوطن ..وهل يغيب الوطن نعم يغيب الوطن حين يغيب الأمان لدرجة أن يصبح كل شيء مثيرا للخوف
الخوف من السلطة .. الخوف من المجهول
أكثر ما بهرني هو روح المصريين التي تحول كل شيء إلى واقع ملموس وتفاصيل حية في الميدان :باعة الشاي يروجون له كمكمل لحالة الابتهاج التي تجتاح الميدان وناسه ..تحولت الثورة لرموز وأيقونات تصلح مجالا لأكل العيش الذي برع فيه المصريون براعة أنقذتهم من سنوات الفقر العجاف منذ زمن يوسف عليه السلام إلى الآن .. اللافتات التي كانت فيما مضى غارقة في أوحال الكذب والنفاق واسترضاء السلطة صارت ألسنة تطالب بالحق وتدافع عنه بقوة وصمود وكبرياء .. الناس يجلسون في دعة وطمأنينة وكأنهم يشعرون لأول مرة أن البلد بلدهم ... روح الانقسام والعداء اختفت , الناس يتطوعون بكل سعة الصدر لمساعدة بعضهم بعضا بكل الود فيقابل بكل الامتنان.. صبايا وشباب ورجال وأطفال .. جنديان من القوات المسلحة يساعدان شيخا مريضا يكادان يحملانه..حتى أنا شملتني أجواء الرحابة فوجدت نفسي ـ على غير العادةـ أرحب بثرثرة سائق الأجرة حيث حمل لي آخر الأخبار لكنني اكتشفت أنه فيلسوف ـ ومعظم المصريين كذلك ـ حيث أخبرني في لهجة تقريرية أن ميدان التحرير أصبح متنزها وأصبح مكانا روحانيا لأن دماء الشهداء أريقت فيه وأن أرواحهم ترفرف عليه ـ في حين قلت في نفسي " وأيضا لأن نصر الله تنزل هناك
إلا ان الأمر انتهى نهاية غير متوقعة بأن سمعت صوت طبول ودفوف ووجدت باقة من ورد مصر وسمعت أعجب العجب .. تظاهرة سياسية سلمية على الدف بهتافات شعرية مبتكرة تتلقاها الجماهير بالتصفيق والدموع والابتسامات ورعشات الشفاه .
فين فلوسنا فين
تلاتة أربعة ..
عصابة متجمعة ......
متقوليش اتنحى خلاص ..
الشعب طالب القصاص
يامحمد قول لبولس ..
بكرا ليبيا تحصل تونس
ياجرجس قول لحسن ..
مصر وليبيا واليمن
ياكل الأمة العربية..
مصر بتعلم حرية
سك الشيش, سك الشباك ..
اخواتنا بيدبحوا هناك
وتعالى قولي تعالى
ليبيا كلها رجالة
والعجيب أنهم كانوا حريصين على عدم تعطيل المرور والأعجب أن قوات الجيش تحرسهم وترمقهم بعين الرعاية والإعجاب .. باختصار كان الوجود المصري طاغيا عبقا برائحة الوطن.. الوطن العائد
ذلك كان 23 فبراير
من ميدان مصر.. ميدان المصريين .. ميدان التحرير